◊۩¯−الشبهات التي أُثِيرَت حَولَ النَّبِي-صلَّى الله عَلَيه وسلَّم- والرد عليها..−¯۩◊


الشبهة الأولى


زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم-

أ.د. بكر بن زكي عوض



السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حدثني أحد الأصدقاء الثقات أنه دخل على إحدى غرف الدردشة الصوتية ووجد فيها مسلمين ونصارى يتناقشون عن الديانتين ولاحظ أن أكثر موضوع كان يحرج المسلمين هو زواج الرسول –صلى الله عليه وسلم- من تسع نساء، وسؤالي هو: هل يمكن أن أجد لديكم شرحاً مفصلاً لهذه الزيجات وظروفها والحكمة منها؟ وجزاكم الله خيراً.



الجواب
الحمد لله، وبعد:
أخي السائل: إن تعدد الزوجات معروف في الرسالات السابقة كما هو معروف في رسالة الإسلام وحياة الرسول –عليه الصلاة والسلام-.
وإذا كنت تناقش نصرانياً أو تريد أن تناقشه فإليك الآتي:
(1) إن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وغيرهم قد عددوا الزوجات ووصل الأمر بهم إلى الزواج من مئة مثل داود الذي لم يكتف بتسع وتسعين حتى تزوج تمام المئة بعد موت زوجها، وسليمان كانت له ثلاثمائة زوجة وأربعمائة جارية كما في العهد القديم مصدر التشريع الأول عند النصارى (ما جئت لأنقص بل لأكمل).
(2) كافة نصوص العهد القديم تأذن بالتعدد وتبيحه للأفراد رسلاً أو بشراً.
(3) لم يرد نص واحد يحرم التعدد في النصرانية وقد تأثر النصارى بالبلاد التي نشروا فيها النصرانية، ففي أفريقيا يأذنون بالتعدد ويبيحون الزواج للقساوسة، وفي أوروبا يحرمون التعدد ويحرمون الزواج على القساوسة ويبيحون الصداقة.
(4) النص الذي يستشهد به النصارى على تحريم التعدد هو (أما علمتم أن الخالق منذ البدء جعلهما ذكراً وأنثى وقال لهذا يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فما جمعه الله لا يفرقه إنسان). فجعلوا من ضمير الإفراد في قوله:”امرأته” أن الرجل لا يتزوج إلا بامرأة واحدة. والنص قد فهم على غير وجهه، فالمسيح حين سئل “أيحل لأحدنا أن يطلق امرأته لأي علة كانت…” كانت إجابته كما سبق.
(5) أن الإجابة لا صلة لها بالتعدد بل بالنهي عن الطلاق لا التزوج.
(6) المسيحية تأذن بالتعدد بالتتابع ولكنها ترفضه بالجمع وينتهي التعدد عند الرابعة متتابعاً حتى لا يكون الإنسان غاوياً، وتسمح بالخلة والصديقة بدون حد ولا عد.
(7) كان العرب يجمعون بين أربعين امرأة في وقت واحد كدليل على الرجولة وطلب للولد.
(8) بالنسبة لتعدد زوجات الرسول –صلى الله عليه وسلم- فإنه يرجع إلى أسباب اجتماعية وتشريعية وسياسية يمكن بيانها –والله أعلم- على النحو التالي:



أولاً: الأسباب الاجتماعية:
(أ) زواجه من خديجة –رضي الله عنها- وهذا أمر اجتماعي أن يتزوج البالغ العاقل الرشيد وكان –عليه الصلاة والسلام- في سن الخامسة والعشرين وظلت معه وحدها حتى توفيت وهو في سن الخمسين.
(ب) تزوج بعدها بالسيدة سودة بنت زمعة وكانت أرملة لحاجة بناته الأربع إلى أم بديلة ترعاهن وتبصرهن بما تبصر به كل أم بناتها.
(ج) حفصة بنت عمر بن الخطاب تزوجها بعد وفاة زوجها إكراماً لأبيها سـ3هـ.
(هـ) زينب بنت خزيمة استشهد زوجها في أحد فتزوجها سـ 4هـ.
(و) أم سلمة هند بنت أمية توفى زوجها ولها أولاد فتزوجها سـ4هـ.



ثانيا : الأسباب التشريعية:
– زواجه من عائشة –رضي الله عنها- فلقد كان بوحي، حيث رآها في المنام ورؤيا الأنبياء وحي.
– زينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة الذي كان يدعى زيد بن محمد بالتبني فنزل قول الله تعالى:”وما جعل أدعياءكم أبناءكم” [الأحزاب: 4] “ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله” [الأحزاب: 5] وبعد خلاف مع زوجها طلقت منه وأمر الرسول –صلى الله عليه وسلم- أن يتزوجها لإقامة الدليل العملي على بطلان التبني، وذلك سنة خمسة للهجرة.



ثالثاً: الأسباب السياسية:
كان لبعض زيجات الرسول –صلى الله عليه وسلم- بعداً سياسياً من حيث ائتلاف القلوب والحد من العداوة وإطلاق الأسرى…إلخ، ومن هن:
(1) جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق من خزاعة وقعت في الأسر، تزوجها سنة 6 هـ.
(2) أما حبيبة رملة بنت أبي سفيان، تنصر زوجها وبقيت على إسلامها، وكان للزواج منها كبير الأثر في كسر حدة أبي سفيان في العداء للإسلام، حتى هداه الله.
(3) صفية بنت حيي بن أخطب كانت من سبي خيبر أعتقها الرسول وتزوجها سـ7هـ.
(4) ميمونة بنت الحارث تزوجها سـ 7هـ.
مات من هؤلاء اثنتان في حياة الرسول وهما خديجة وزينب بنت خزيمة وتوفى الرسول –صلى الله عليه وسلم- عن تسع.
وأما الجواري فهما مارية القبطية التي ولدت إبراهيم وتوفى صغيراً، وريحانة بنت زيد القرطية.


إذن التعدد بدأ في سن الثالثة والخمسين من عمره فهل هذا دليل الشهوة، ومن يشته هل يتزوج الثيبات وأمهات الأولاد والأرامل، كيف وقد عرض عليه خيرة بنات قريش فأبى!



إن التعدد كله لحكم منها –فضلا عما سبق- بيان كل ما يقع في بيت النبوة من أحكام عملاً بقوله تعالى:”واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة” [الأحزاب: 34] وإذا كان الحكم الشرعي لا يثبت بخبر الواحد غالباً فإن للتعدد أثره في إثبات الأحكام بالتواتر، كما أن زوجات الرسول –صلى الله عليه وسلم- اختلفت أحوالهن بين غنى وفقرٍ وحسب ونسب وبساطة لكل من يتزوج بأي صورة من هذه الصور قدوة في حياة الرسول –صلى الله عليه وسلم- مع زوجته التي تطابق حال زوجه وتعددهن فيه بيان لكل ما يمكن أن يقع من النساء داخل البيت كالغيرة والصبر والتآمر وطلب الدنيا؟ والتواضع ونشر العلم والرضى… إلخ.
إن بسط الكلام في هذا الأمر متعذر في هذه العجالة واقرأ زوجات النبي –صلى الله عليه وسلم- لبنت الشاطئ. تعدد الزوجات لأحمد عبد الوهاب. الرحيق المختوم (الجزء الثاني) للمباركفوري.


..


الشبهة الثانية


حول عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القرآن من العصمة

أ.د محمود حمدى زقزوق


هناك من لا يعترفون بأن الرسول معصوم عن الخطأ ، ويقدمون الأدلة على ذلك بسورة [ عبس وتولى ] وكذلك عندما جامل الرسول صلى الله عليه وسلم ، زوجاته ، ونزلت الآية الكريمة التي تنهاه عن ذلك (انتهى).



الرد على الشبهة:
إن عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكذلك عصمة كل الرسل – عليهم السلام – يجب أن تفهم فى نطاق مكانة الرسول.. ومهمة الرسالة.. فالرسول: بشر يُوحَى إليه.. أى أنه – مع بشريته – له خصوصية الاتصال بالسماء ، بواسطة الوحى.. ولذلك فإن هذه المهمة تقتضى صفات يصنعها الله على عينه فيمن يصطفيه ، كى تكون هناك مناسبة بين هذه الصفات وبين هذه المكانة والمهام الخاصة الموكولة إلى صاحبها.
والرسول مكلف بتبليغ الرسالة ، والدعوة إليها ، والجهاد فى سبيل إقامتها وتطبيقها.. وله على الناس طاعة هى جزء من طاعة الله – سبحانه وتعالى – (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) (1) (قل أطيعوا الله والرسول ) (2) (من يطع الرسول فقد أطاع الله ) (3) (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ) (4) ولذلك كانت عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله ضرورة من ضرورات صدقهم والثقة فى هذا البلاغ الإلهى الذى اختيروا ليقوموا به بين الناس.. وبداهة العقل – فضلاً عن النقل – تحكم بأن مُرْسِل الرسالة إذا لم يتخير الرسول الذى يضفى الصدق على رسالته ، كان عابثًا.. وهو ما يستحيل على الله ، الذى يصطفى من الناس رسلاً تؤهلهم العصمة لإضفاء الثقة والصدق على البلاغ الإلهى.. والحُجة على الناس بصدق هذا الذى يبلغون.
وفى التعبير عن إجماع الأمة على ضرورة العصمة للرسول فيما يبلغ عن الله ، يقول الإمام محمد عبده عن عصمة الرسل – كل الرسل -: “.. ومن لوازم ذلك بالضرورة: وجوب الاعتقاد بعلو فطرتهم ، وصحة عقولهم ، وصدقهم فى أقوالهم ، وأمانتهم فى تبليغ ما عهد إليهم أن يبلغوه ، وعصمتهم من كل ما يشوه السيرة البشرية ، وسلامة أبدانهم مما تنبو عنه الأبصار وتنفر منه الأذواق السليمة ، وأنهم منزهون عما يضاد شيئًا من هذه الصفات ، وأن أرواحهم ممدودة من الجلال الإلهى بما لا يمكن معه لنفس إنسانية أن تسطو عليها سطوة روحانية.. إن من حكمة الصانع الحكيم – الذى أقام الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم – أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يُعدُّ لها ، بمحض فضله ، بعض مَنْ يصطفيه من خلقه ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته ، يميزهم بالفطرة السليمة ، ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه ، والأمانة على مكنون سره ، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه ، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته ، فيشرفون على الغيب بإذنه ، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه ، ويكونون فى مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين ، نهاية الشاهد وبداية الغائب ، فهم فى الدنيا كأنهم ليسو من أهلها ، هم وفد الآخرة فى لباس من ليس من سكانها.. أما فيما عدا ذلك – [ أى الاتصال بالسماء والتبليغ عنها ] – فهم بشر يعتريهم ما يعترى سائر أفراده ، يأكلون ويشربون وينامون ويسهون وينسون فيما لا علاقة له بتبليغ الأحكام ، ويمرضون وتمتد إليهم أيدى الظلمة ، وينالهم الاضطهاد ، وقد يقتلون ” (5).
فالعصمة – كالمعجزة – ضرورة من ضرورات صدق الرسالة ، ومن مقتضيات حكمة من أرسل الرسل – عليهم السلام -..
وإذا كان الرسول – كبشر – يجوز على جسده ما يجوز على أجساد البشر.. وإذا كان الرسول كمجتهد قد كان يمارس الاجتهاد والشورى وإعمال العقل والفكر والاختيار بين البدائل فى مناطق وميادين الاجتهاد التى لم ينزل فيها وحى إلهى.. فإنه معصوم فى مناطق وميادين التبليغ عن الله – سبحانه وتعالى – لأنه لو جاز عليه الخطأ أو السهو أو مجانبة الحق والصواب أو اختيار غير الأولى فى مناطق وميادين التبليغ عن الله لتطرق الشك إلى صلب الرسالة والوحى والبلاغ ، بل وإلى حكمة من اصطفاه وأرسله ليكون حُجة على الناس.. كذلك كانت العصمة صفة أصيلة وشرطًا ضروريًا من شروط رسالة جميع الرسل – عليهم السلام -.. فالرسول فى هذا النطاق – نطاق التبليغ عن الله – (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى ) (6). وبلاغة ما هو بقول بشر ، ولذلك كانت طاعته فيه طاعة لله ، وبغير العصمة لا يتأتى له هذا المقام.
أما اجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم فيما لا وحى فيه ، والتى هى ثمرة لإعماله لعقله وقدراته وملكاته البشرية ، فلقد كانت تصادف الصواب والأولى ، كما كان يجوز عليها غير ذلك.. ومن هنا رأينا كيف كان الصحابة ، رضوان الله عليهم فى كثير من المواطن وبإزاء كثير من مواقف وقرارات وآراء واجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه – قبل الإدلاء بمساهماتهم فى الرأى – هذا السؤال الذى شاع فى السُّنة والسيرة:
” يا رسول الله ، أهو الوحى ؟ أم الرأى والمشورة ؟.. ” فإن قال: إنه الوحى. كان منهم السمع والطاعة له ، لأن طاعته هنا هى طاعة لله.. وهم يسلمون الوجه لله حتى ولو خفيت الحكمة من هذا الأمر عن عقولهم ، لأن علم الله – مصدر الوحى – مطلق وكلى ومحيط ، بينما علمهم نسبى ، قد تخفى عليه الحكمة التى لا يعلمها إلا الله.. أما إن قال لهم الرسول – جوابًا عن سؤالهم -: إنه الرأى والمشورة.. فإنهم يجتهدون ، ويشيرون ، ويصوبون.. لأنه صلى الله عليه وسلم هنا ليس معصومًا ، وإنما هو واحد من المقدمين فى الشورى والاجتهاد.. ووقائع نزوله عن اجتهاده إلى اجتهادات الصحابة كثيرة ومتناثرة فى كتب السنة ومصادر السيرة النبوية – فى مكان القتال يوم غزوة بدر.. وفى الموقف من أسراها.. وفى مكان القتال يوم موقعة أُحد.. وفى مصالحة بعض الأحزاب يوم الخندق.. إلخ.. إلخ.
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أراد الله له أن يكون القدوة والأسوة للأمة (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا ) (7).
وحتى لا يقتدى الناس باجتهاد نبوى لم يصادف الأولى ، كان نزول الوحى لتصويب اجتهاداته التى لم تصادف الأولى ، بل وعتابه – أحيانًا – على بعض هذه الاجتهادات والاختيارات من مثل: (عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى ) (8). ومن مثل: (يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثًا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأنى العليم الخبير ) (9). ومن مثل: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) (10).
وغيرها من مواطن التصويب الإلهى للاجتهادات النبوية فيما لم يسبق فيه وحى ، وذلك حتى لا يتأسى الناس بهذه الاجتهادات المخالفة للأولى.
فالعصمة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما يبلغ عن الله شرط لازم لتحقيق الصدق والثقة فى البلاغ الإلهى ، وبدونها لا يكون هناك فارق بين الرسول وغيره من الحكماء والمصلحين ، ومن ثم لا يكون هناك فارق بين الوحى المعصوم والمعجز وبين الفلسفات والإبداعات البشرية التى يجوز عليها الخطأ والصواب.. فبدون العصمة تصبح الرسالة والوحى والبلاغ قول بشر ، بينما هى – بالعصمة – قول الله – سبحانه وتعالى – الذى بلغه وبينه المعصوم – عليه الصلاة والسلام -.. فعصمة المُبَلِّغ هى الشرط لعصمة البلاغ.. بل إنها – أيضًا – الشرط لنفى العبث وثبوت الحكمة لمن اصطفى الرسول وبعثه وأوحى إليه بهذا البلاغ.



—————————
(1) النساء: 59.
(2) آل عمران: 32.
(3) النساء: 80.
(4) آل عمران: 31.
(5) [ الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ] ج2 ص 415 ، 416 ، 420، 421. دراسة وتحقيق: د.
محمد عمارة. طبعة القاهرة سنة 1993م.
(6) النجم: 3-4.
(7) الأحزاب: 21.
(8) عبس: 1-10.
(9) التحريم: 1-3.
(10) الأنفال: 67-68.


..


الشبهة الثالثة


دعوى: خلو الكتب السابقة من البشارة برسول الإسلام

أ.د محمود حمدى زقزوق



زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول. وبنوا هذا الزعم على أربع شعب هى:
1- إن العهد والنبوة والكتاب محصورة فى نسل إسحق لا إسماعيل.؟!
2- إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يأت بمعجزات.؟!
3- إن القرآن من نوادر الأعمال الإنسانية ، فليس هو معجزاً (1).؟!
4- إن الكتب السابقة – التوراة وملحقاتها والأناجيل – خلت من البشارة برسول الإسلام.؟!



الرد على الشبهة:
ولكن قبل أن نواجهها مواجهة مباشرة أريد أن أقدم كلمة موجزة بين يدى هذه المواجهة ، رأيت أن تقديمها من أوجب الواجبات فى هذا المجال.
وجود ” البشارات ” وعدمها سواء..؟ أجل: إن وجود البشارات وعدمها فى الكتب المشار إليها آنفا سواء ، وجودها مثل عدمها ، وعدمها مثل وجودها. فرسالة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ليست فى حاجة إلى دليل يقام عليها من خارجها ، بحيث إذا لم يوجد ذلك الدليل ” الخارجى ” بطلت – لا سمح الله – تلك الرسالة ؛ فهى رسالة دليلها فيها ، ووجود البشارات بها فى كتب متقدمة – زمنا – عليها لا يضيف إليها جديداً ، وعدم وجود تلك البشارات لا ينال منها شيئاً قط.
فهى حقيقة قائمة بذاتها لها سلطانها الغنىعما سواها. ودليلها قائم خالد صالح للفحص فى كل زمان ومكان ، باق بقاء رسالته أبد الدهر أشرق ولم يغب ، ظهر ولم يختف ، قوى ولم يضعف. علا ولم يهبط ، إنه دليل صدق الأنبياء كلهم. فكل الأنبياء مضوا ولم يبق من أدلة صدقهم إلا ما جاء فى هذا الدليل ” القرآن العظيم ” حيث شهد لهم بالصدق والوفاء وأنهم رسل الله المكرمون..
فلا يظنن أحدُ أننا حين نتحدث عن بشارات الكتب السابقة برسول الإسلام إنما نتلمس أدلة نحن فى حاجة إليها لإثبات صدق رسول الإسلام فى دعواه الرسالة. فرسول الإسلام ليس فى حاجة إلى ” تلك البشارات ” حتى ولو سلم لنا الخصوم بوجودها فله من أدلة الصدق ما لم يحظ به رسول غيره.



وستعالج البشارة به صلى الله عليه وسلم على قسمين:
1- بشاراته صلى الله عليه وسلم فى التوراة.
2- بشاراته صلى الله عليه وسلم فى الإنجيل.



أولاً: البشارات فى التوراة تعددت البشارات برسول الإسلام فى التوراة وملحقاتها ، ولكن اليهود أزالوا عنها كل معنى صريح ، وصيروها نصوصاً احتمالية تسمح لهم بصرفها عنه صلى الله عليه وسلم ومع هذا فقد بقيت بعد تعديلها وتحريفها قوية الدلالة على معناها ” الأصلى ” من حملها على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم لأن حملها على غيره متعذر أو متعسر أو محال.
فهى أشبه ما تكون برسالة مغلقة مُحى ” عنوانها ” ولكن صاحب الرسالة قادر – بعد فضها – أن يثبت اختصاصها به ، لأن الكلام ” الداخلى ” الذى فيها يقطع بأنها ” له ” دون سواه ؛ لما فيها من ” قرائن ” وبينات واضحة ونعرض – فيما يلى – بعضاً منها:
” وهذه هى البركة التى بارك بها موسى رجل الله بنى إسرائيل قبل موته “.
فقال:
” جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من ساعير ، وتلألأ من جبل فاران ” (2). فى هذا النص إشارة إلى ثلاث نبوات:
الأولى: نبوة موسى عليه السلام التى تلقاها على جبل سيناء.
الثانية: نبوة عيسى عليه السلام وساعير هى قرية مجاورة لبيت المقدس ، حيث تلقى عيسى عليه السلام أمر رسالته.
الثالثة: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وجبل فاران هو المكان الذى تلقى فيه – عليه الصلاة والسلام – أول ما نزل عليه من الوحى وفاران هى مكة المكرمة مولد ومنشأ ومبعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه العبارة – مرة أخرى – تضمنت خبراً وبشارتين:
فالخبر هو تذكير موسى بفضل الله عليه حيث أرسله إليهم رسولاً.
والبشارتان:
الأولى: خاصة بعيسى عليه السلام. والثانية خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وموقف اليهود منهما النفى: فلا الأولى بشارة بعيسى ابن مريم ولا الثانية بشارة برسول الإسلام.
أما موقف النصارى فإن النفى – عندهم – خاص ببشارة رسول الإسلام. ولهم فى ذلك مغالطات عجيبة ، حيث قالوا إن ” فاران ” هى ” إيلات ” وليست مكة. وأجمع على هذا ” الباطل ” واضعو كتاب: قاموس الكتاب المقدس. وهدفهم منه واضح إذ لو سَلَّمُوا بأن ” فاران ” هى مكة المكرمة ، للزمهم إما التصديق برسالة رسول الإسلام ، وهذا عندهم قطع الرقاب أسهل عليهم من الإذعان له.. ؟! ، أو يلزمهم مخالفة كتابهم المقدس ، ولم يقتصر ورود ذكر ” فاران ” على هذا الموضع من كتب العهد القديم ، فقد ورد فى قصة إسماعيل عليه السلام مع أمه هاجر حيث تقول التوراة: إن إبراهيم عليه السلام استجاب لسارة بعد ولادة هاجر ابنها إسماعيل وطردها هى وابنها فنزلت وسكنت فى ” برية فاران ” (3). على أنه يلزم من دعوى واضعى قاموس الكتاب المقدس من تفسيرهم فاران بإيلات أن الكذب باعترافهم وارد فى التوراة. لأنه لم يبعث نبى من ” إيلات ” حتى تكون البشارة صادقة. ومستحيل أن يكون هو عيسى عليه السلام ؛ لأن العبارة تتحدث عن بدء الرسالات وعيسى تلقى الإنجيل بساعير وليس بإيلات.
فليست ” فاران ” إلا ” مكة المكرمة ” وباعتراف الكثير منهم ، وجبل فاران هو جبل ” النور ” الذى به غار حراء ، الذى تلقى فيه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بدء الوحى.
وهجرة إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة المكرمة ” فاران ” أشهر من الشمس.
وترتيب الأحداث الثلاثة فى العبارة المذكورة:
جاء من سيناء وأشرق من ساعير وتلألأ من فاران. هذا الترتيب الزمنى دليل ثالث على أن ” تلألأ من جبل فاران ” تبشير قطعى برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
وفى بعض ” النسخ ” كانت العبارة: ” واستعلن من جبل فاران ” بدل ” تلألأ “.
وأياً كان اللفظ فإن ” تلألأ ” و ” استعلن ” أقوى دلالة من ” جاء ” و ” أشرق ” وقوة الدلالة هنا ترجع إلى ” المدلولات ” الثلاثة. فالإشراق جزء من مفهوم ” المجئ ” وهكذا كانت رسالة عيسى بالنسبة لرسالة موسى (عليهما السلام).
أما تلألأ واستعلن فهذا هو واقع الإسلام ، رسولا ورسالة وأمة ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هذه المغالطة (فاران هى إيلات) لها مثيل حيث تزعم التوراة أن هاجرأم إسماعيل عندما أجهدها العطش هى وابنها إسماعيل بعد أن طردا من وجه ” سارة ” طلبت الماء فلم تجده إلا بعد أن لقيا ملاك ” الرب ” فى المكان المعروف الآن ” ببئر سبع ” ؟! وأنها سميت بذلك لذلك..؟! وكما كذبت فاران دعوى ” إيلات ” كذَّبت ” زمزم الطهور ” دعوى ” بئر سبع ” ؟‍ وستظل فاران – مكة المكرمة – وزمزم الطهور ” عملاقين ” تتحطم على صخورهما كل مزاعم الحقد والهوى.
ويجئ نص آخر فى التوراة لا محمل له إلا البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم مهما غالط المغالطون.
وهو قول الله لموسى حسب ما تروى التوراة:
” أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامى فى فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الإنسان الذى لا يسمع لكلامى الذى يتكلم به باسمى أنا أطالبه ” (4).
حدث هذا حسب روايات التوراة وعداً من الله لموسى فى آخر عهده بالرسالة ، وكان يهمه أمر بنى إسرائيل من بعده ، فأعلمه الله – حسب هذه الرواية التوراتية – أنه سيبعث فيهم رسولا مثل موسى عليه السلام.
ولقوة دلالة النص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد وقف أهل الكتابين – اليهود والنصارى – موقفين مختلفين هدفهما واحد ، وهو أن النص ليس بشارة برسول الإسلام.



أما اليهود فلهم فيه رأيان:
الأول: أن العبارة نفسها ليست خبراً بل هى نفى ، ويقدرون قبل الفعل ” أقيم ” همزة استفهام يكون الاستفهام معها ” إنكارياً ” وتقدير النص عندهم هكذا ” أأقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك..؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!
بطلان هذا الرأى وهذا الرأى باطل ولن نذهب فى بيان بطلانه إلى أكثر من كلام التوراة نفسها. وذلك ؛ لأنه لو كان النص كما ذكروا بهمزة استفهام إنكارى محذوفة هى فى قوة المذكور لكان الكلام نفياً فعلاً.. ولو كان الكلام نفياً لما صح أن يعطف عليه قوله بعد ذلك:
” ويكون أن الإنسان الذى لا يسمع لكلامى الذى يتكلم به باسمى أنا أطالبه ” ؟! فهذا المقطع إثبات قطعاً فهو مرتب على إقامة النبى الذى وعد به المقطع الذى قبله. فدل هذا ” العطف ” على أن المقطع السابق وعد خبرى ثابت لا نفى. ويترتب على ذلك بطلان القول الذاهب إلى تقدير الاستفهام..؟!
الثانى: وقد أحس اليهود ببطلان القول بالاستفهام فاحتاطوا للأمر وقالوا لا مانع أن يكون النص خبراً ووعداً مثبتاً ، ولكنه ليس المقصود به عيسى ابن مريم عليه السلام ولا محمد بن عبد الله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، بل المراد به نبى من أنبياء إسرائيل يوشع بن نون فتى موسى ، أو صموئيل..؟!



موقف النصارى:
أما النصارى فيحملون البشارة فى النص على عيسى عليه السلام وينفون أن يكون المراد بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، وقد علمنا قبلا أن اليهود ينفون أن تكون لعيسى عليه السلام.
وللنصارى مغالطات عجيبة فى ذلك إذ يقولون إن النبى الموعود به ليس من بنى إسماعيل بل من بنى إسرائيل. ومحمد إسماعيلى فكيف يرسل الله إلى بنى إسرائيل رجلاً ليس منهم.؟! كما قالوا إن موسى أتى بمعجزات ومحمد لم يأت بمعجزات فكيف يكون مثله. وقد رددنا على هذه الفرية فيما تقدم.



الحق الذى لا جدال فيه:
والواقع أن كل ما ذهب إليه اليهود والنصارى باطل. باطل. ولن نذهب فى بيان بطلانه إلى أبعد من دلالة النص المتنازع عليه نفسه. أما الحق الذى لا جدال فيه فإن هذا النص ليس له محمل مقبول إلا البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وإليكم البيان:
إن النص المتنازع عليه يقيد البشارة بالنبى الموعود به فيه بشرطين:
أحدهما: أنه من وسط إخوة بنى إسرائيل.
وثانيهما: أنه مثل موسى عليه السلام صاحب شريعة وجهاد لأعداء الله وهذان الشرطان لا وجود لهما لا فى يوشع بن نون ، ولا فى صموئيل كما يدعى اليهود فى أحد قوليهم.
ولا فى عيسى عليه السلام كما يدعى النصارى.
أما انتفاء الشرط الأول فلأن يوشع وصموئيل وعيسى من بنى إسرائيل وليسو من وسط إخوة بنى إسرائيل.
ولو كان المراد واحداً منهم لقال فى الوعد: أقيم لهم نبياً منهم.. ؟! هذا هو منهج الوحى فى مثل هذه الأمور كما قال فى شأن النبى صلى الله عليه وسلم:
(هو الذى بعث فى الأميين رسولاً منهم… ) (5). وكما جاء على لسان إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم… ) (6).
وأما انتفاء الشرط الثانى ، فلأن: لا صموئيل ولا يوشع ولا عيسى ابن مريم كانوا مثل ” موسى ” عليه السلام.
فموسى كان صاحب شريعة ، ويوشع وصموئيل وعيسى وجميع الرسل الذين جاءوا بعد موسى عليه السلام من بنى إسرائيل لم يكن واحداً منهم صاحب شريعة ، وإنما كانوا على شريعة موسىعليه السلام.
وحتى عيسى ما جاء بشريعة ولكن جاء متمماً ومعدلاً فشريعة موسى هى الأصل. إن عيسى كان مذكراً لبنى إسرائيل ومجدداً الدعوة إلى الله على هدى من شريعة موسى عليه السلام !! فالمثلية بين هؤلاء – وهى أحد شرطى البشارة – وبين موسى عليه السلام لا وجود لها. ؟!
الشرطان متحققان فى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وبنفس القوة والوضوح اللذين انتفى الشرطان بهما عمن ذكروا من الأنبياء ثبت ذلك الشرطان لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم:
فهو من نسل إسماعيل ، وإسماعيل أخو إسحق ، الذى هو أبو يعقوب المسمى إسرائيل. فهو من وسط إخوة بنى إسرائيل – بنو عمومتهم – وليس من إسرائيل نفسها. وبهذا تحقق الشرط الأول من شرطى البشارة:
ومحمد – عليه الصلاة والسلام – صاحب شريعة جليلة الشأن لها سلطانها الخاص بها – جمعت فأوعت – مثلما كان موسى – أكبر رسل بنى إسرائيل – صاحب شريعة مستقلة كانت لها منزلتها التى لم تضارع فيما قبل من بدء عهد الرسالات إلى مبعث عيسى عليه السلام.
وبهذا يتحقق الشرط الثانى من شرطى البشارة وهو ” المثليه ” بين موسى ومحمد (عليهما صلوات الله وسلامه) ، فعلى القارئ أن يتأمل ثم يحكم.
فى المزامير المنسوبة إلى داود عليه السلام وردت كثير من العبارات التى لا يصح حمل معناها إلا على رسول الإسلام. ومن ذلك قول داود كما تروى التوراة:
” أنت أبرع جمالاً من بنى البشر. انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد. تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار ، جلالك وبهاؤك. وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة.. بتلك المسنونة فى قلب أعداء الملك – يعنى الله – شعوب تحتك يسقطون.. من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك ” (7).
اسمعى يانيت وأميلى أذنك ، وانسى شعبك وبيت أبيك ، فيشتهى الملك الملك حسنك ؛ لأنه هو سيدك فاسجدى له. وبنت صور أغنى الشعوب تترضى وجهك بهدية. كلها مجد ابنة الملك فى خدرها. منسوجة بذهب ملابسها مطرزة ، تحضر إلى الملك فى إثرها عذارى صاحباتها مقدمات إليك يحضرن بفرح وابتهاج يدخلن إلى قصر الملك. عوضاً عن آبائك يكون بنوك نقيمهم رؤساء فى كل الأرض اذكر اسمك فى كل دور فدور من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والآبد ” وقفة مع هذا الكلام فى المقطع الأول (أ) لا تنطبق الأوصاف التى ذكرها داود إلا على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فهو الذى قاتل بسيفه فى سبيل الله وسقطت أمامه شعوب عظيمة كالفرس والروم.
وهو الممسوح بالبركة أكثر من رفقائه الأنبياء ؛ لأنه خاتم النبيين ، ورسالته عامة خالدة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (8).
ولم يترك رسول هدى وبيانا مثلما ترك رسول الإسلام فى القرآن الحكيم ، وفى أحاديثه وتوجيهاته ، التى بلغت مئات الآلاف ، وتعددت المصادر التى سجلتها ، وفيها من روائع البيان ، وصفاء الألفاظ ، وشرف المعانى ما ليس فى غيرها.
أما المقطع الثانى (ب) فهو أوصاف للكعبة الشريفة. فهى التى تترضاها الأمم بالهدايا. وهى ذات الملابس المنسوجة بالذهب والمطرزة ، وهى التى يذكر اسمها فى كل دور فدور وتأتيها قوافل” الحجيج ” رجالاً ونساءً من كل مكان فيدخل الجميع فى ” قصر الملك ” ويحمدها الناس إلى الأبد ؛ لأن الرسالة المرتبطة بها رسالة عامة: لكل شعوب الأرض الإنس والجن. بل والملائكة. وفى مواسم الحج يأتيها القاصدون من جميع بقاع الأرض مسلمين ، ورعايا مسلمين من بلاد ليست مسلمة.
خالدة: لم ينته العمل بها بوفاة رسولها ، كما هو الحال فيما تقدم. وإنما هى دين الله إلى الأبد الأبيد.
وأشعيا وسفره من أطول أسفار العهد القديم ملئ بالإشارات الواضحة التى تبشر برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، ولولا المنهج الذى أخذنا به هنا وهو عدم التطويل لذكرنا من ذلك الكثير ؛ ولذا فإننا نكتفى بهذا المقطع لدلالته القوية على ما نقول:
” قومى استنيرى ؛ لأنه قد جاء نورك ، ومجد الرب أشرق عليك.. لأنه ها هى الظلمة تغطى الأرض والظلام الدامس الأمم. أما عليك فيشرق الرب ، ومجده عليك يرى. فتسير الأمم فى نورك ، والملوك فى ضياء إشراقك.
ارفعى عينيك حواليك وانظرى. قد اجتمعوا كلهم جاءوا إليك. يأتى بنوك من بعيد ، وتحمل بناتك على الأيدى ، حينئذ تنظرين وتنيرين ويخفق قلبك ويتسع ؛ لأنه تحول إليك ثروة البحر ، ويأتى إليك غنى الأمم تغطيك كثرة الجمال بكران مديان ، وعيفة كلها تأتى من شبا. تحمل ذهبا ولبانا ، وتبشر بتسابيح الرب. كل غنم قيدار تجتمع إليك. كباش نبايوت تخدمك تصعد مقبولة على مذبحى ، وأزين بيت جمالى.
من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها. إن الجزائر تنتظرنى وسفن ترشيش فى الأول لتأتى من بعيد ، وفضتهم وذهبهم معهم لا سم الرب إلهك … (9).
وبنو الغريب يبنون أسوارك ، وملوكهم يخدمونك.. وتفتح أبوابك دائما نهاراً وليلاً لا تغلق ، ليؤتى إليك بغنى الأمم وتقاد ملوكهم… (10).
دلالة هذه النصوص:
بلا أدنى ريب فإن هذا الكلام المنسوب إلى أشعيا وصف لمكة المكرمة وكعبتها الشامخة.
فالمقطع الأول إنما هو حديث عن موسم الحج المبارك فيه يجتمع بنوها حولها من كل مكان وفيه لمحة قوية جداًُ إلى نحر الهدى صبيحة العيد. ألم يشر النص إلى غنم قيدار ، وقيدار هوولد إسماعيل عليه السلام الذى تشعبت منه قبائل العرب. ثم ألم ينص على المذبح الذى تنحر عليه الذبائح ؟ كما أشار النص ثلاث إشارات تعد من أوضح الأدلة على أن المراد بهذا النص مكة المكرمة. وتلك الإشارات هى طرق حضور الحجاج إليها. ففى القديم كانت وسائل النقل: ركوب الجمال. ثم السفن. أما فى العصر الحديث فقد جدت وسيلة النقل الجوى ” الطائرات ” وبشارة أشعيا تضمنت هذه الوسائل الثلاث على النحو الآتى:
1- الجمال ، قال فيها: تغطيك كثرة الجمال.؟!
2- السفن ، قال فيها: وسفن ترشيش تأتى ببنيك من بعيد ؟!
3- النقل الجوى ، وفيه يقول: من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها. ؟!!
أليس هذا أوضح من الشمس فى كبد السماء.
على أن النص ملئ بعد ذلك بالدقائق والأسرار ، ومنها أن مكة مفتوحة الأبواب ليلاً ونهاراً لكل قادم فى حج أو عمرة.. ؟!
ومنها أن خيرات الأمم تجبى إليها من كل مكان ، والقرآن يقرر هذا المعنى فى قول الله تعالى:
(أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شىء ) (11).
ومنها أن بنى الغريب (يعنى غير العرب) يبنون أسوارها. وكم من الأيدى العاملة الآن ، وذوى الخبرات يعملون فيها ويشيدون قلاعها فوق الأرض وتحت الأرض ومنها أنه ما من عاصمة من عواصم العالم إلا دخلت فى محنة من أهلها أو من غير أهلها إلا هذه ” العاصمة المقدسة ” فظلت بمأمن من غارات الغائرين وكيد الكائدين ، ومثلها المدينة المنورة.
ومنها كثرة الثروات التى مَنَّ الله بها عليها. أليس البترول من ثروات البحر العظمى التى تفجرت أرض الحجاز وشبه الجزيرة منه عيوناً دفاقة بمعدل لم تصل إليه أمة من الأمم. أضف إلى ذلك سبائك الذهب والفضة.
والحديث عن مكة المكرمة حديث عن رسول الإسلام ؛ لأن مجدها لم يأت إلا على يدى بعثته صلى الله عليه وسلم.
هذه الحقائق لا تقبل الجدل. ومع هذا فإن أهل الكتاب (وخاصة اليهود) يحملون هذه الأوصاف على مدينة ” صهيون ” ولهذا فإنهم عمدوا إلى النص وعدلوه ليصلح لهذا الزعم.
ولكننا نضع الأمر بين يدى المنصفين من كل ملة. أهذه الأوصاف يمكن أن تطلق على مدينة ” صهيون “.
لقد خرب ” بيت الرب ” فى القدس مراراً وتعرض لأعمال شنيعة على كل العصور. أما الكعبة الشريفة والمسجد الحرام فلم يصل أحد إليهما بسوء ، ثم أين ثروات البحر والبر التى تجبى إلى تلك المدينة وأهلها (إلى الآن) يعيشون عالة على صدقات الأمم.
وأين هى المواكب التى تأتى إليها براً وبحراً وجَوّاً ، وهل أبوابها مفتوحة ليلاً ونهاراً ، وأين هم بنوها الذين اجتمعوا حولها.
وما صلة غنم قيدار وكباش مدين بها. وأين هو التسبيح الذى يشق عنان السماء منها.. وأين.. وأين..؟‍ إن هذه المغالطات لا تثبت أمام قوة الحق ، ونحن يكفينا أن نقيم هذه الأدلة من كتبهم على صدق الدعوى ، ولا يهمنا أن يذعن القوم لما نقول فحسبك من خصمك أن تثبت باطل ما يدعيه أمام الحق الذى تدافع عنه.
والفاصل بيننا ـ فى النهاية ـ هو الله الذى لا يُبدل القول لديه.
وتنسب التوراة إلى نبى يدعى ” حبقوق ” من أنبياء العهد القديم ، وله سفر صغير قوامه ثلاثة إصحاحات.
تنسب إليه التوراة نصوصاً كان يصلى بها. تضمنها الإصحاح الثالث من سفره. وهذا الإصحاح يكاد يكون كله بشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. وإليكم مقاطع منه: ” الله جاء من تيمان ، والقدوس من جبل فاران ـ سلاه ـ جلاله غطى السماوات. والأرض امتلأت من تسبيحه وكان لمعان كالنور له من يديه شعاع ، وهناك استتار قدرته.
قدامه ذهب الوبأ. وعند رجليه خرجت الحمى. وقف وقاس الأرض ، نظر فرجف الأمم ودكت الجبال الدهرية ، وخسفت آكام القوم.
مسالك الأزل يسخط دست الأمم ، خرجت لخلاص شعبك 000 سحقت رأس بيت الشرير معرياً الأساس حتى العنق 000 سلكت البحر بخيلك..(12).



دلالات هذه الإشارات:
لا يستطيع عاقل عالم بتاريخ الرسالات ومعانى التراكيب أن يصرف هذه النصوص على غير البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. فالجهتان المذكورتان فى مطلع هذا المقطع وهما: تيمان: يعنى اليمن ، وجبل فاران: يعنى جبل النور الذى بمكة المكرمة التى هى فاران. هاتان الجهتان عربيتان. وهما رمز لشبه الجزيرة العربية التى كانت مسرحاً أولياً لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
فليس المراد إذن نبياً من بنى إسرائيل ؛ لأنه معلوم أن رسل بنى إسرائيل كانت تأتى من جهة الشام شمالاً. لا من جهة بلاد العرب. وهذه البشارة أتت مؤكدة للبشـارة المماثلة ، التى تقدم ذكرها من سفر التثنية ، وقد ذكرت أن الله: تلألأ أو استعلن من جبل فاران.
بيد أن بشارة التثنية شملت الإخبار بمقدم موسىعليه السلام والتبشير بعيسى عليه السلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم أما بشـارة حبقوق فهى خاصة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. ولو لم يكن فى كلام حبقوق إلا هذا ” التحديد ” لكان ذلك كافياً فى اختصاص بشارته برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ومع هذا فقد اشتمل كلام حبقوق على دلائل أخرى ذات مغزى:
منها: الإشارة إلى كثرة التسبيح حتى امتلأت منه الأرض.. ؟!
ومنها: دكه صلى الله عليه وسلم لعروش الظلم والطغيان وقهر الممالك الجائرة.
ومنها: أن خيل جيوشه ركبت البحر ، وهذا لم يحدث إلا فى ظل رسالة الإسلام.
على أن كلام حبقوق ملئ بالرمز والإشارات مما يفيدنا فى هذا المجال ولكننا نتجاوزه لأمرين:
أحدهما: أن فى الإشارات الصريحة غناء عنها.
وثانيهما: عدم التطويل ـ هنا ـ كما اتفقنا.
بشاراته صلى الله عليه وسلم فى العهد الجديد أسفار العهد الجديد (الأناجيل والرسائل) حافلة بالنصوص التى يتعين أن تكون ” بشارات ” برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
تلك البشـارات تعـلن أحياناً فى صورة الوعـد بملكوت الله أو ملكوت السماوات. وأحيانا أخـرى بالـروح القـدس. ومرات باسـم المعـزى أو الفارقليط ، وهى كلمة يونانية سيأتى فيما بعد معناها ، تلك هى صورة البشارات فى الأناجيل فى صيغها المعروفة الآن.
ففى إنجيل متى وردت هذه العبارة مسـندة إلى يحيى عليه السلام المسمى فى الأناجيل: يوحنا المعمدان.
وفيها يقول: ” توبوا ؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات ” (13).
فمن هو ملكوت السماوات الذى بشر به يحيى ؟! هل هو عيسى عليه السلام ـ كما يقول النصارى..؟!
هذا احتمال.. ولكن متَّى نفسه يدفعه حيث روى عن عيسى عليه السلام نفس العبارة: ” توبوا ؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات ” (14).
فلـو كان المراد بملكـوت السماوات ـ هذه ـ عيسى عليه السلام لما وردت هذه ” البش?

عن adoshahema

شاهد أيضاً

للتفاؤل طــاقه عجيبه وغـــداً مشرق…!