
د. طارق الحبيب
لا تقتصر براعة الحديث على أسلوب الكلام وجودة محتواه.. بل إن حسن الإصغاء يُعد فناً من فنون الحوار، وكم تحدث أناس وهم لا يريدون الذي يحاورهم، بل يريدون الذي يُصغي إليهم كي يبوحوا بما في صدورهم.!
وبراعة الاستماع تكون بـ: الأذن، وطَرْف العين، وحضور القلب، وإشراقة الوجه، وعدم الانشغال بتحضير الرد، متحفزاً متوثباً منتظراً تمام حديث صاحبك..!
وتذكر أنك لن تستطيع أن تفهم حقيقة مراد محاورك ما لم تكن راغباً بجدية في الإنصات إلى حديثه.. كما أن معرفتك بحديث المتكلم لا تغنيك عن الاستماع.. وقد روت كتب السيرة أن شاباً قام فتكلم في مجلس عطاء بن أبي رباح؛ فأنصت له كأنه يسمع حديثه لأول مرة، فلما انتهى الشاب وانصرف تعجب الحاضرون من عطاء، فقال: والله إني لأعلم الذي قاله قبل أن يولد..!
من لي بإنسان إذا خاصمته *** وجَهِلت كان الحِــــلم رد جـــــوابه
وتراه يُصغي للحديث بسمعه *** وبقلبــــــه ولعلـــــــــــه أدرى بـــه..!
والإصغاء الجيد أبلغ ما يكون أثره في المقابلة الأولى، وفي اللقاءات العابرة؛ للأثر الطيب لمثل هذه اللقاءات في النفوس؛ ولأن الحوار فيها يكون عاماً لا يستدعي مداخلة في أكثر الأحيان، وفيها يتشكل انطباع كل فرد عن الآخر.. وكم أثنى الناس على حسن حوار فلان مع أنه يطيل الصمت..!
قال بعض الحكماء: “صمتك حتى تُستنطَق، أجمل من نُطقك حتى تسكت”..!
يقول “دايل كارنيجي”: “إن أشد الناس جفافاً في الطبع، وغلظة في القول، لا يملك إلا أن يلين، وأن يتأثر إزاء مستمع صبور، عطوف، يلوذ بالصمت إذا أخذ محدثه الغضب”..!
قال أحد حكماء العرب: “إذا جالستَ العلماء فأنصت لهم.. وإذا جالست الجُهَّال فأنصت لهم أيضاً؛ فإن في إنصاتك للعلماء زيادة في العلم، وفي إنصاتك للجُهَّال زيادة في الحلم”..!
ونقل ابن عبد ربه في “العقد الفريد” عن بعض الحكماء قوله لابنه: “يا بني.. تعلَّم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الحديث، وليعلم الناس أنك أحرص على أن تسمع منك على أن تقول”.
ويخطئ بعض الناس بالمبالغة في الإنصات لدرجة عدم الكلام مستشهدين بالحكمة الدارجة “إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب!”
فلهؤلاء أقول: لولا الكلام لما عرفنا هذه المقولة..!
ولذا ما أدق فهم الجاحظ حين قال: “ليس الصمت كله أفضل من الكلام كله، ولا الكلام كله أفضل من السكوت كله، بل قد علمنا أن عامة الصمت أفضل من عامة الكلام”..!
وليس الخجل من الحديث أمراً محموداً، فقد يكون ذلك الساكت ممن تنقصهم مهارة الحديث أو به علةنفسية كالرُهاب الاجتماعي، أو اضطراب في شخصيته يجعله يتجنب الحديث مع الآخرين.
(( ** حادثْهُ بإسمه ** ))
د. طارق الحبيب
احرص على معرفة اسم مجالسك وادعه به، وليكن ذلك في أول الحوار، مثل قولك : “هل لي أن أتشرف بمعرفة اسمك الكريم؟” ثم خاطبه به مقروناً بلفظ التقدير الذي يفضله، ويختلف ذلك من مجتمع لآخر، فمنهم من يكون قمة التقدير عنده أن تدعوه بأكبر أبنائه، ومنهم من يفضل مناداته بدرجته العلمية: كأستاذ أو مهندس أو دكتور..
وليكن اسمه جزءاً أساسياً من خاتمة الحوار كقولك: “لقد كانت مناسبة سعيدة أن تعرفنا عليك يا أخ فلان..” فهي كالطابع في نهاية الرسالة لابد منه، ثم إن لاقيته ثانية فابدأه باسمه.
ولا تبالغ في ترديد اسمه بين كل حرفين؛ فإن ذلك مما يمجه الذوق وتبغضه النفس.. وتذكَّر أن كبير السن يبهجه التصاغر أمامه والتقرب إليه، ولذلك كان إبراهيم ينادي آزر بنداء الأبوة مضافاً إليه: “يا أبت”.
ومن اللياقة أن تعرفه بالحاضرين، وتعرف الحاضرين باسمه، مما يشعره أنه واحد منهم لا غريباً عنهم.. كما قد يسهل ذلك عليك أن تقرره بحقيقة تريد بيانها، وذلك بإدراج اسمه ضمناً كقولك: “وأظنني والأخ فلان متفقين على هذا الأمر” وكم ابتهج وضيع بذكر اسمه من رفيع، وأنسته البهجة موضوع الحوار وأقبل على ما كان يرفضه قبل حين .
قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه -: “ثلاثة تُثبت المحبة لك في قلب أخيك: أن توسع له في المجلس، وأن تدعوه باسمه، وأن تبدأه بالسلام”.
(( ** حـسـن الـبـيـان ** ))
د. طارق الحبيب
الفصاحة والبيان يفعلان فعل السحر في السامع .. فصاحة من غير إغراب ولا تعقيد، وبيان من غير تشدق ولا تفيهق .
قال الجاحظ : البيان ترجمان القلوب وصقل العقول .
وما أحلى الحوار بكلام يأتي بقدر الحاجة في وقت الحاجة، وقد رُوى عن عمر- رضي الله عنه- أنه قال : إن أندم على شيء من الدنيا، فلا أندم إلا على ثلاثة ذكر منها وأن أجالس أناساً ينتقون كلامهم كما يُنْتَقَى أطايب الثمر .
ومن ضروب البيان تبسيط الفكرة ومقارنتها بغيرها ..
سئل الشاعر أحمد شوقي : لماذا تكتب القصائد ذات الحكايات الخرافية ؟
فقال : لأن الأمثال وحدها بدون حكاية عبارة جافة سرعان ما تنسى، كما أنها لا تثير الاهتمام.
أما الحكاية فهي تستثير اهتمام الطفل لمتابعة حوادثها حتى النهاية، وبالتالي لفهم العظة الأخلاقية التي هي هدف القصيدة ويقتنع بها .
ومما يفسد البيان عجمة بعضهم باستخدام ألفاظ غير عربية أو رطانتهم بسرد التعابير التقنية التي يعرفها من خلال تخصصه – كطبيب أو مهندس – أو من حصيلة قراءته العامة، أو لعله يتباهى بها أمام من يجهلها، وربما كان هو بها أجهل!!.
فما أجمل بساطة العبارة، من غير إطالة ولا تكرار، حتى لا يخل بعض الكلام ببعض، فكم ضاع حق بسوء عبارة، وظهر باطل بحسن طلاوة، كما أنه ينبغي على المتحدث ألا يسرع بعرض أفكاره فَيُعْجِزُ عن ملاحقته ولا يبطئ فَيُمَلَ منه ويترك، وأن يكون واضح العبارة لا تجد صعوبة في تتبع كلماته.
وينسى البعض أثناء حديثه .. فهو حينما ينتقل من فكرة لأخرى أو ينشغل بالتفكير في ثالثة، فإنه لا ينقطع عن الحديث بل يظل يعيد بعض الأحرف أو الكلمات مثل ” فا..فا .. آ آ .. يعني يعني .. ” وما كان ذلك إلا لخوفه من المقاطعة أو أنه سريع الحديث فيصعب عليه التحكم في ألفاظه نظراً لانشغال عقله في وصل الحوار.
ومن البيان أن يعرف متى يتكلم، ومتى ينصت، ومتى يجيب إشارةً، وما أجمل كذلك أن يطرز كلامه بشواهد الشعر والنثر دون المبالغة في ذلك.
قال أبو العتاهية: ” لو شئت أن يكون حديثي كله شعراً موزوناً لكان “ .
ومن البيان أيضاً أن يكون الفرد موضوعياً، فالناس تشدهم الحقائق وتضايقهم العموميات، ويحترمون من يرفد حديثه بالأرقام والتواريخ والأحداث.
(( ** الخلاف طبيعة بشرية ** ))
شيءٌٌ لابد منه، ذلك هو اختلاف الآراء، ولعله من أسباب تتابع الرسل وتوالي الكتب { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ }.
ويكون الاختلاف في أمور الدين والدنيا صغيرها وكبيرها، ولعل سبب ذلك تباين الطبائع، فالناس مختلفون في عقولهم وأفهامهم، وفي ميولهم ورغباتهم، وفي تنشئتهم وثقافتهم. ولقد اختلف أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما – مرات عديدة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم فما عنَّف واحداً منهما.
وكم من المرات التي اختلف بعض الصحابة رضوان الله عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ذاته مثلما كان من عمر رضي الله عنه في أسرى بدر، وكذلك الحباب بن المنذر رضي الله عنه في اختيار موقع معسكر المسلمين في غزوة بدر، فقد كان من منهجه صلى الله عليه وسلم استشارة أصحابه، فلربما سمع رأياً آخر فاستحسنه.
فإذا أدرك المحاور قبل حواره أن الاختلاف وتبادل الآراء طبيعة بشرية؛ أقبل على مُحَاوِرِه بنفس مطمئنة، وروح هادئة، تكون سبباً في تقارب وجهات النظر وإماتة روح الفرقة والاختلاف، وإن ننس فلا ننسى قول الشاعر:
واختلاف الرأي لا يُفسد للود قضية
فالنقاش حوار عقول، والمودة حوار عواطف، فخلاف بسيط في وجهات النظر لا يُذْهِب بالمودة والمحبة، ويأتي بالعداء والخصومة.
قال يونس الصدفي ـ رحمه الله -: ما رأيت أعقل من الشافعي.. ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة !
(( *:* لتحسن العرض *:* ))
يقول بشر بن المعتمر: من أراد معنى كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف.
وقال أرسطو: لا يكفي أن يعرف المرء ما ينبغي أن يقال، بل يجب أن يقوله كما ينبغي.
طالما رُفِضَتْ أفكار ورُدَّتْ أطروحات لأن صاحبها لم يحسن عرضها في قالب جيد .. حيث تجد بعضهم يقوم بنقض الثوابت لدى الطرف المقابل فجأة وبدون تقديم تدريجي لها في بدء حواره، فلا يكتب له القبول.
ولذلك نجد أن الحوار القرآني مع الكافرين في مختلف سور القرآن الكريم يعرض ابتداءً آيات الإعجاز الكونية وعظمة خالقها حتى يقرها في نفوسهم، ثم في النهاية يباشرهم بحقيقة الدعوة والوعيد الشديد إن هم أعرضوا.
“وابتعد التقريرية في حوارك – ما أمكن – واستبدل الأوامر بالاقتراحات تمتلك زمام صاحبك دون أن تسيء إليه أو تستثير عناده، بل حاول أن تشعره بأن الفكرة فكرته”.
قال حكيم الصين ” لاوتي “: ” والرجل العاقل هو الذي إذا أراد أن يعلو على الناس وضع نفسه أسفلهم، وإذا شاء أن يتصدرهم جعل نفسه خلفهم .. ألا ترى إلى البحار والأنهار كيف تتلقى الجزية من مئات الترع والجداول التي تعلوها” .
ولتقدر أفكار صاحبك، ولتبد عطفك على رغباته، واجعل الحوار فيما يهمه تجده يقبل شغوفاً على الأمر الذي تقترحه عليه.
جاء شاعر مبتدئ إلى شاعر كبير كي يعرض عليه مقالة كتبها وضمنها شيئاً من شعره، فقرأ الشاعر المقالة ووجد أبيات الشعر مكسرة عليلة خالية من أي حس شعري، فقال له: إني وجدتك تجيد النثر أكثر من الشعر، فهلا جعلتها قطعة نثرية بحتة، فأعجب المبتدئ هذا الاقتراح فعمل به .
ومن حسن العرض أحياناً الحديث بأسلوب يثير التساؤل عند الطرف الآخر فيدفعك بأسئلته للتحليق في الميدان الذي تريده.
والمحاور الجيد هو الذي لا يبدأ حواره بلغة رسمية لأنه إن فعل ذلك فسيكون الحوار رسمياً، أما لو بدأ الحوار بلغة ودودة خالية من الإلحاح والقلق فإن المودة والاحترام سيكونان مآل ذلك الحوار.
وصدق من قال: من لانت كلمته وجبت محبته.
وصف بعضهم رجلاً بليغاً فقال:
كلامه سمح سهل، كأن بينه وبين القلوب نسب، وبينه وبين الحياة سبب، كأنما هو تحفة قادم، ودواء مريض، وواسطة قلادة.
(( ** طلب الحق ** ))
إن المسلم الصادق ينشد الحقيقة ويفر من الخديعة ، همّه بلوغ الحق سواء على يده أو على يد محاوره فالحكمة ضالته .
وقد انتقدت امرأة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في مسألة تحديد المهور وهو في خطبته على ملأ من الناس، فقال : أصابت امرأة وأخطأ عمر فحفظ التاريخ روعة ذلك الحدث لعمر _ رضي الله عنه – ونُسيت بل حتى لم يذكر المؤرخون اسم تلك المرأة التي استطاعت أن تصوب قرار الخليفة !!
قال الإمام الشافعي :
” ما كلمت أحداً قط إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه “.
وقال أبو حامد الغزالي:
” أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه،ويرى رفيقه معيناً لا خصماً،ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق”.
ومن طلب الحق أن تضع نفسك مكان محاورك وتبحث في الأسباب المحتملة لحيدته عن الحق .
ولا نرفض الحق إن جاءنا من غير المسلم حتى لو كان في أمر ديننا فما بالك إن جاءنا من إخواننا في أمور دنيانا، فعن قتيلة بنت صيفي الجهينية قال : أتى حبر من أحبار اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، نعم القوم أنتم ، لولا أنكم تشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” سبحان الله وما ذاك ؟! ” قال : تقولون إذا حلفتم والكعبة . قالت : فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم قال : ” إنه قد قال ، فمن حلف فليحلف برب الكعبة “ قال : يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً ، قال صلى الله عليه وسلم : ” سبحان الله ، وما ذاك ؟! قال تقولون ما شاء الله وشئت . قالت فأمهل رسول الله صلى الله شيئاً ثم قال : ” إنه قد قال ، فمن قال : ما شاء الله فليفصل بينهما ثم شئت “.
ومما يبتلى به بعض الناس حب الحديث لحاجة وبدون حاجة ، وشهوة السيطرة على المجالس ، وإظهار البراعة والثقافة ، وانتزاع الإعجاب وانتظار الثناء من الآخرين ، وهذا ولا شك مما يحبط أعمالهم وقلما يجدون به القبول عند الناس.
قال الشاعر أحمد شوقي :
إذا رأيت الهوى في أمة حكماً ** فأحكم هنالك أن العقل قد ذهبا
ولذلك حبذا لو راجع الدعاة إلى الله أنفسهم من وقت لآخر ، لأن وظيفتهم التي شرفهم الله بها تعتمد في أصلها على الحوار . ولقد فطن لذلك عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – بقوله : ” والذي لا إله غيره ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان ” .
كما يجب أن نتذكر أن هوى النفس لا يأتي عرياناً بل مزخرفاً بألفاظ النية الخالصة : ” إحقاقاً للحق أقول ” .. ” انتصاراً للأمة ” .. ثم يندس هواه بعد ذلك من حيث يعلم أو لا يعلم .
ولذلك ينبغي للمحاور أن يقف مع نفسه قبل كل حوار وقفتين :
· هل نيتي خالصة لله في هذا الحوار .
فإن غلب على ظنه أن نيته خالصة ، وقف وقفته الثانية :
· هل هناك فائدة ترجى من هذا الحوار ؟ أم لعله يثير فتنة ، أو مدعاة لترف فكري من غير ضرورة، أم أن تركه خير من نتيجته المرجوة في أحسن الأحوال .
ومن نصائح الرسول صلى الله لأبي ذر الغفاري :
” عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان ، وعون لك على أمر دينك ”
ولكن يا تُرى لو خلصت النية في حوار مفيد ، ثم طرأ عليها عارض من الشيطان ، هل يحجم عن الحوار أم يستمر فيه ؟
لا ريب أن هذا من مداخل الشيطان ، بل عليه أن يستمر ، ويدعوا الله أن يخلص له قصده.
@ لا تتعصب..!
الحق هو ضالة المؤمن، ينشده حتى ولو كان على نفسه، فذلك العقل بعينه والتحرر من تبعية الهوى.
والمتعصب هو ذلك الإنسان الذي غطى هواه على عقله، فهو لا يرى غير رأيه، بل ويستغرب أحياناً، وأحياناً يسفه آراء غيره. كما تراه يكثر من مقاطعة محاوره، وقلما اعترف بخطأ، بل يكثر الردود ويسعى لحماية نفسه وما يخصه، ويدافع عن رأي مسبق يعتقد به حول الموضوع محط الحوار دون تفكير ونظر فيما يسمعه من أفكار وآراء الآخرين. كما تراه يقطع ويجزم في كل شيء يتحدث به، وقلما قال: أحياناً أو في بعض الأحوال، بل يستبدل ذلك بقوله: دائماً.
قال الشاعر:
دع الجدال ولا تحفل به أبداً ** فإنه سبب للبغض ما وُجِدَا
والمتعصب يدور مع فكرته حيث دارت، وقد يضطر للتفكير بطرق متناقضة في ذات الحوار دعماً لفكرته العقيمة. ومن هذا المنطلق السقيم نشأت الحزبيات في العمل الإسلامي وتعددت المناهج؛ مما كان له بالغ الأثر في اضطراب الصفوف وتأخر الوحدة.
قال الشيخ “عبدالرحمن السعدي” ـ رحمه الله ـ في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين:2ـ 3): “دلت الآية الكريمة على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له، يجب أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال والمعاملات، بل يدخل في عموم هذا: الحجج والمقالات، فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد منهما يحرص على ما له من الحجج، فيجب عليه أيضاً أن يبين ما لخصمه من الحجة التي لا يعلمها، وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو. وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من تعصبه”.
وفي المقابل فليس الخنوع محموداً، فإن قام شخص وتكلم في أمر لك به صلة فلا تسكت ـ بعيداً عن التعصب ـ بل حاوره مسلماً بما عرضه من حقائق، معترفاً بما انتقده من أخطاء، ثم انقله بهدوء إلى ما خفي عنه في ذلك الموضوع.. فهذا الضرب من الحوار يجعلك مثال الموضوعية والأمانة ومحط احترام الآخرين وتقديرهم.
ومن أقبح التعصب أن يكون هم المحاور إسقاط صاحبه، وتتبع هفواته، والتحايل عليه؛ رغبة في تحقيره، فمن كان ذلك شأنه فليهنأ ببغض الناس له!!
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً” ولا يعد الثبات على الحق والالتزام بالصواب المتعارف عليه لوناً من التعصب، فهناك من الأمور ما يجب الثبات عليه ولو اقتضى الأمر حدوث ما يبدو أنه إساءة للطرف الآخر،
فعن جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسخة من التوراة فقال: يا رسول الله هذه نسخة من التوراة. فسكت فجعل يقرأ ووجه رسول الله يتغير. فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل، ما ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعوذ بالله من الله وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حياً وأدرك نبوتي لاتبعني“
ومن التعصب ما نجده عند بعض كبار السن عند حوارهم مع الشباب؛ فهم متعصبون لآرائهم ولا يقبلون رؤية الشباب؛ لأنها ـ حسبما يقولون ـ ينقصها النضج دون أن يبذلوا أدنى جهد في تقييم ذات الفكرة.
ومن التعصب أيضاً إصرار بعضهم على كسب الحوار بنسبة مئة في المئة؛ مما يثير التعصب عند الطرف الآخر.
@@ الــحــيــدة
تلك حيلة الضعيف ولعبة الجبان، وهي الجواب عن غير سؤال السائل، تهرباً من الإجابة المباشرة إما خجلاً أو حرجاً منها. وربما تكون الإجابة تساؤلاً آخر أو شيئاً مما يحبه السائل حتى ينسى سؤاله.
وقد نهج ذلك الكفار في حوار أنبيائهم فحين سأل إبراهيم قومه عن آلهتهم: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) (الشعراء:72 ، 73)..
إنما أراد بذلك أن يذمهم ويعيب آلهتهم، فعرفوا ذلك فصاروا بين أمرين:
أن يقولوا: نعم يسمعوننا حين ندعو أو ينفعوننا أو يضروننا، فيشهد عليهم بلغة قومهم أنهم كذبوا، لأنهم قالوا قبل قليل: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) (الأنبياء: من الآية65)،
أو يقولوا: لا يسمعوننا ولا ينفعوننا ولا يضروننا، فينفون عن آلهتهم القدرة، وعلموا أن الحجة عليهم “لإبراهيم”؛ لأنهم في أي القولين أجابوه فهو عليهم، فحادوا عن جوابه واجتلبوا كلاماً من غير ما سألهم عنه قالوا (َبَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (الشعراء: من الآية74) فلم يكن هذا جواب مسألته.
يقول امرؤ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً *** عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فقلت لها سيري وأرخي زمامه *** ولا تبعديني عن خبــــــــاك المحلل
ولم يكن هذا جواباً لقوله: “عقرت بعيري”، وإنما حاد عن جوابها فاجتلب كلاماً غيره فأجاب به.
ويروي لنا التاريخ حيدة الضال “بشر بن غياث المريسي” في مناظرته للإمام عبد العزيز بن يحيى في حضرة الخليفة المأمون، وقد دون الإمام تلك المناظرة في كتابه “الحيدة وانتصار المنهج السلفي” حريٌ بطالب العلم أن يراجعها.
ومن الحيدة: توسل الشخص بالعاطفة بدلاً من أن يقدم أساساً معقولاً لرفض اقتراح أو فكرة، وكثيراً ما يولع أمثال هذا الشخص بالإشارة، – في معرض النقاش– إلى اعتبارهم الذاتي ومؤهلاتهم الحقيقية أو المزعومة كدليل على صحة ما يقدمونه من أفكار، بدلاً من أن يقدموا حقائق أو حججاً صريحة، ويتركوها هي تتكلم بنفسها.
وإن قلت ما قلت في ذم الحيدة، فإنها تظل الحيلة المستطابة والمنفذ الآمن للزوج من إحراجات زوجته!!
@ اعــتــرف بـالـخـطـأ..!!
من ذا الذي لا يخطئ؟
ومن هو معصوم غير أنبياء الله ورسله؟
فالخطأ أمر طبيعي ” كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون“
( رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد والدارمي).
والعاقل من يسلم بالخطأ حال تبينه للصواب؛ بل ويشكر لصاحبه أن أرشده إليه، فذلك مما يكسبه ثقة الناس واحترامهم؛ فالاعتراف بالحق فضيلة، وإن كان صعباً لمن لم يروض نفسه عليه خاصة في المحافل وأمام الجموع، فهو يحتاج إلى شجاعة وقوة نفس، ومن اعتاده وجد له حلاوة تقارب حلاوة النصر ( أصول الحوار، ص 35 بتصرف).
والتسليم بالخطأ ميزة لا يقدر عليها كل أحد.
أما الدفاع عن الخطأ فكلنا تدعونا نفوسنا إليه، فهو فطرة وليس بحاجة إلى مران، والفَطِن من يُسلِّم بخطئه بسرعة وقبول صادق.
يقول صاحب كتاب “كيف تكسب الأصدقاء”: “وإذا عرفنا أننا سنمنى بالهزيمة على أي حال أفليس من الأحجى أن نسبق نحن الشخص الآخر إلى التسليم بها؟
أليس من الأفضل أن نستمع إلى النقد الذي نوجهه نحن إلى أنفسنا بدلاً من أن ننصت إليه من شخص آخر؟
اذكر كل المثالب التي ترى أن الشخص الآخر يعتزم أو يريد أن يقولها عنك، وقلها عن نفسك قبل أن تسنح له الفرصة!! فأنت حينئذ تحبس الرياح عن شراعه. والأرجح أنه سيأخذ عندئذ التي هي أكرم ويقف منك موقف الرحيم العافي ويهون من عيوبك وأخطائك” .
ويمكن أن يُوظف الاعتراف بالخطأ بطريقة إيجابية في دعم العلاقة الأخوية مع من قد أخطأت عليه، مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل حينما يلتقي “عبدالله ابن أم مكتوم” ـ رضي الله عنه ـ فيقول له: “أهلاً بالذي عاتبني فيه ربي”.
ولو أصر محاورك على نقدك وتخطئتك بعد نقدك لنفسك واعترافك بالخطأ، فإن الناس سيكفونك مؤونة الرد عليه وربما إسكاته. وإن حدث أن تزامن خطأ منك مع خطأ صاحبك فسابقه بالاعتراف والاعتذار من ذلك الخطأ.
ولعلك بنظرة عجلى تقلب بها صفحات التاريخ تجد الشواهد على ذلك، فتلك المرأة التي أسلفنا خبرها مع عمر ـ رضي الله عنه ـ وذلك الرجل الذي سأل علياً ـ رضي الله عنه – فأجابه، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال ـ رضي الله عنه ـ أصبتَ وأخطأتُ وفوق كل ذي علم عليم.
وقد يغالط المحاور عند خطئه، فيلجأ إلى أساليب دقيقة تنمّ عن كثير من البراعة، فهو يعيد صياغة كلامه الذي أخطأ فيه في كلمات طويلة وتعابير مؤثرة، يقدمها إلى مستمعه بوصفها برهاناً على صحة كلامه، وربما انخدع هذا الأخير بها في سهولة ويسر.
فلنعوّد أنفسنا على الصدق معها؛ لأن الإصرار على الخطأ يفقدنا احترام الناس لنا؛ بل واحترامنا لأنفسنا، ولنسلم بأخطائنا توهب لنا متعة لا نحس بها عند تبرئة النفس وإنكار الخطأ.
ابدأ بنقاط الاتفاق..!
عند البدء في حوارك تجنب عرض نقاط الاختلاف؛ لأنه يوقف الحوار من أوله، أو على أقل تقدير ينحى به منحى التحدي؛ فتضطغن النفوس، وتكون نصرة الذات لا بلوغ الحق هي الهم الأوحد، ولذلك نجد أن القرآن الكريم عند حوار المخالفين في المعتقد يبدأ بعرض البديهيات والمسلمات والدأب على تأكيدها، والتي تلزمهم في النهاية بالإيمان بما أنكروه ابتداءً {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ* قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ* قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} ()
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص كذلك على البدء بنقاط الاتفاق في دعوته وتوجيهه للناس..
“فعن أبي أمامة – رضي الله عنه – أن غلاماً شاباً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: ائذن لي في الزنا. فصاح به الناس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقروه، ادن. فدنا حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحبه لأمك؟ قال: لا. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم! أتحبه لأختك؟ قال: لا. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم! أتحبه لعمتك؟ قال: لا. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم! أتحبه لخالتك؟ قال: لا. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم! فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره، وقال: اللهم كفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه” ()
ولعل العجلة في إنهاء الحوار، وقلة صبرنا على الآخرين، واعتدادنا الزائد بما نملك من قدرة على الإقناع، يجعلنا نبدأ بنقاط الخلاف..!
فما أحرى أن نهمل خلافنا ونمهله شيئاً من الوقت؛ حتى لا نقع في شَرك كلمة “لا” ومن ثم أين المخرج؟..
يقول “أوفر ستريت” في كتابه “التأثير في الطبيعة الإنسانية”:
“إن كلمة (لا) عقبة كؤود يصعب التغلب عليها، فمتى قال أحد: (لا) أوجب عليه كبرياؤه أن يظل مناصراً لنفسه..
إن قول (لا) أكثر من مجرد التفوه بكلمة مكونة من حرفين، إن كيانه جميعاً بغدده وأعصابه وعضلاته يتحفز ليناصره باتجاه الرفض”.
قال “فيثاغورس”:
“إن أقدم كلمتين وأقصرهما “نعم ولا” هما أكثر الكلمات تطلباً للتفكير”.
فعند الحوار: أبدأ بنقاط الاتفاق، ولا يعيبك طول الحديث؛ فإنه ـ كما يقول الصينيون ـ:
“من يمش هوناً يمش دهراً”.
واجعل ذلك ديدنك؛ فإنه من دواعي التلاقي والألفة التي هي أصل لكل حوار، ومن ثم هوِّن نقاط الاختلاف مقارنة بنقاط الاتفاق؛ تجد محاورك يقتنع دون أن يشعر، وقد كان سقراط (حكيم اليونان) يسأل محاوره أسئلة لا يملك الإجابة عنها إلا بنعم، ويظل يكسب الجواب تلو الجواب حتى يجد مناظره نفسه مقتنعاً بفكرة كان ضدها منذ دقائق!!
الظرف المناسب !!
من بلاغة الحوار مراعاة الكلام لمقتضى الحال، ولذا فإنه يحسن بالمحاور أن يلقي نظرة فاحصة فيما حوله قبل أي حوار، ثم يحدد تلاؤم الحال للحوار، فإن وجده ملائماً استعان بالله وبدأ، وإلا سكت وتريث.
فربما ضاق الوقت عن حوار في أمر يحتاج إلى مدة أطول من المتاح، نظراً لتأخر الوقت، أو قرب موعد أمر ثابت لا يمكن تأجيله، كالصلاة.
وقد تكون الحال غير مناسبة، كحوار في مجتمع كبير قبيل وليمة لا تدري في أي لحظة ينادى للطعام، ومثل ذلك الأماكن العامة حيث تكثر فيها الشواغل والمقاطعات، فلا تصلح لحوار طويل.
وعلى المحاور ألا يغفل النظر عن الحضور، فلعل موضوع الحوار أصلاً لا يندرج تحت اهتمامهم، أو أن من بينهم مشاكساً همه اللعب وإثارة الأعصاب، فيجعلك مادة للحديث في ذلك المجلس.
والمحاور اللبق هو الذي يعطي الظروف النفسية وزنها، ولا يهملها: فالإرهاق، والجوع، ودرجة الحرارة، وضيق المكان، قد تؤثر على الحوار سلباً فتبتره.
مع ذلك كله يظل اختيار الظرف المناسب أمراً يحتاج إلى مران، ومزلقاً قلَّ من ينجو منه، ولذلك فإن وجد المحاور ظرفاً مناسباً فليتوكل على الله، وإلا فليحجم بعض الوقت إن لم يكن كل الوقت.
لا تـقـاطـع..!
راجع نفسك..
هل ترى أنك بحاجة لتعويد نفسك على الصبر؟
هل راقبت حالك أثناء حديث صاحبك؟
هناك من ينشغل بالعبث بالقلم الذي بين يديه.
وآخر ينظر يمنة ويسرة.
وثالث تجده يتنهد ويتمعر وجهه ويحمر ويصفر منتظراً انتهاء حديث صاحبه.
هل أنت من أولئك؟
هل يرضيك أن تكون منهم؟
هل يعجبك أن يكون محاورك مثلهم؟
تكفيني إجابتك، ولتتذكر كذلك أن المقاطعة لا تكون فقط بإسكات صاحبك والحديث بدلاً منه، بل إن سكوتك، وحالك كحال من أسلفنا ذكرهم، لهو عين المقاطعة.
وتذكر أيضاَ أن عدم مقاطعتك لحديث محاورك سيعود عليك بالنفع أيضاً لأنه – في العادة – سيبادلك بالمثل.
يقول “دايل كارنيجي”: “إذا كنت تريد أن ينفض الناس من حولك ويسخروا منك حينما توليهم ظهرك فهاك الوصفة: لا تعط أحداً فرصة للحديث.. تكلم بغير انقطاع.. وإذا خطرت لك فكرة بينما غيرك يتحدث فلا تنتظر حتى يتم حديثه فهو ليس ذكياً مثلك.. فلم تضيع وقتك في الاستماع إلى حديثه السخيف؟ اقتحم عليه الحديث، واعترض في منتصف كلامه”.
وربما كانت عقدة النقص أو شعور بعضهم بأهمية ذاته تجعله يتحدث بلا انقطاع ويقاطع من يتحدث في حضوره. قال “امرسون”: كل رجل أقابله هو أفضل مني بطريقة ما، ومن هنا أستطيع أن أتعلم منه”.
وتذكر أن أكثر ما يثير الضجر في نفوس الناس مقاطعتهم عندما يتحدثون بشكل خاص عن أنفسهم؛ سواء كان حديثهم على سبيل الشكوى أو التباهي بالنفس. ويزداد الأمر سوءاً إن لم تكتف بالمقاطعة، بل وانتقلت للحديث عن أمر آخر يخصك فيشعر الناس حينها أنك إنسان متمركز حول أفكارك وميولك دون أن تعطي مشاعر وأفكار من حولك التقدير المطلوب.
لا تستأثر بالحديث
يحسُن بالمُحاور تجنب الاستئثار بالحديث، وألا يعيب على غيره طول الحديث مبيحاً ذلك لنفسه.
وليتذكر أنه كلما تحدث أكثر، كان عرضة للخطأ والزلل بدرجة أكبر.
قال أبو الدرداء: “إن الله خلق لي أذنين ولساناً واحداً؛ كي أسمع أكثر مما أقول”.
وقديماً قالت العرب: خير الكلام ما قلَّ، وجلَّ، ودلَّ، ولم يطُل فيُمل.
والأَثرة بالحديث آفة قبيحة، يغفل عنها كثير من المحاورين؛ لأنهم يظنون سكوت من أمامهم إعجاباً بكلامهم، وموافقة لهم على الإطالة.
وتظل الأثرة آفة قبيحة حتى لو كان الحديث مكتنزاً بالمعارف، مليئاً بالأدلة، محلى بنوادر الشعر وطرائفه. ومن هنا كان على المحاور أن يراعي الوقت أثناء كلامه، فإن حُدِّد له التزم به، وإلا حدَّده من تلقاء نفسه.
وتكون الأثرة بالحديث مرفوضة أكثر إن صاحبها تكرار للكلام. فاحرص على عدم التكرار من غير فائدة ترجى؛ لأن من لم ينشط لحديثك أول مرة لن ينشِّطه التكرار. قال قتادة: مكتوب في التوراة: “لا يعاد الحديث مرتين”.
واعلم أن إعادة الحديث المفهوم من غير قصد أو فائدة، أشد من نقل الصخر.
ومن عيوب إطالة الكلام تناقص تركيز المتلقي؛ وبالتالي عدم تحقيق الفائدة المرجوة من إطالة وتكرار الحديث عليه.
وقد أُجريت دراسة في إحدى كليات الطب لاختبار قدرة الطالب على مواصلة التركيز، فكانت نتيجتها أن قدرة الطالب على التركيز تبدأ بالتناقص بعد (18) دقيقة من الحديث المتواصل، فما بالك بمستمع لحديث غير ملزم بإدراكه!!
ومن الطريف ما جاء في كتاب الدكتور “جونسون” عن شعوب أفريقيا البدائية.. فقد عاش بينهم وراقبهم طيلة تسع وأربعين سنة، حيث يقول: إنه عندما يلقي خطيب خطاباً طويلاً جداً خلال اجتماع القرية، فإن الجمهور يسكته بالصراخ: كفى! كفى!
ويقال إن قبيلة أخرى تسمح للخطيب بالتحدث ما دام يستطيع ذلك، وهو مرتكز على ساق واحدة، وعندما تلمس ساقه الأخرى الأرض فإنها توجب عليه التوقف عن الكلام!!
قال عبدالله بن مسعود: “حدثوا الناس ما حدجوك بأبصارهم، وأذنوا لك بأسماعهم، ولحظوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم فترة فأمسك”.
ويقول أحد الحكماء: لا تطعم طعامك من لا يشتهيه.
لا تخلط بين الفكرة وصاحبها
حكمة بالغة.. فما يروق لزيد ربما يُنفر عمراً، وما يدركه قوم ربما أعجز آخرين.. فلتؤطر حوارك بالحال من حولك، وتجنب التحديد الواضح عند حوار ذوي الروح الناقدة؛ حتى لا يستعجلوا عليك، وتحفظ خط الرجعة مفتوحاً من ورائك.
وقد يتعذر الحوار في أمر ما، لسبب أو لآخر من الظروف الاجتماعية أو السياسية أو غيرها، ولذا كان لزاماً على المحاور الفطن أن يقدر للأمر قدره، وأن يزن المصالح والمفاسد، وأن لا تغلبه شهوة الحديث عن تقدير العواقب.
والخلط بين المقام والمقال مزلق يقع فيه بخاصة من يكثر الحديث دون حاجة، فيكون عرضة للخطأ أكثر من غيره.. ولذا تجد هؤلاء في أغلب حواراتهم وأطروحاتهم يخلطون بين الفكرة وصاحبها، حيث تجدهم يعدلون عن بحث الفكرة والنظر فيها إلى بحث الأشخاص جرحاً وتعديلاً .
قال ابن القيم: “انظر إلى ما قيل لا من قال” . (مد
شاهد أيضاً
•·.·`¯°·.·• ( لا تصدقي عبارة أن الطيب لا يعيش في هذا الزمان) •·.·°¯`·.·•
..السلام عليكم ورحمه اللهـ ..كيفكم صبايا؟..ان شاء بصحه . و عآفيه.. / / / عيشي …