“أميرة” (بقلم أنثى )

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

“أميرة”
“ابتعدي عني !!
هكذا نهرتها بشدة و نظرة الاشمئزاز في عينيّ توصل رسالتي إليها بوضوح ألا تقترب مني كثيرا أثناء الاصطفاف أمام القسم. كانت تلك هي “أميرة” ذات الملابس الرثة و الوجه المشبع بتفاصيل البؤس و الشقاء. الجميع في صفي يقول أنها تثير التقزز برائحتها النتنة و مظهرها البالي، و الأغلب أن ذلك كان رأي كل من في تلك المدرسة الابتدائية. لكن أظنني أكثرهم احتقارا لها و اشمئزازا منها لأني مضطرة للبقاء بجانبها، فهي تجلس بجانبي منذ عامي الأول في المدرسة فقط لأن معلمتنا أرادت تنظيم الجلوس حسب حروفنا الابجدية. و ها نحن في عامنا الرابع و أنا لا أزداد إلا ازدراء لها و لمظهرها، و مع كل عام يمر يكبر كرهي لها فأضاعف تنمري عليها. لكن أكثر ما يثير غضبي هو تقبلها لكل ذلك بصمت دون أن تشكي أحدا منا إلى المعلمين بالرغم من استطاعتها ذلك بسهولة.

… … …

هدايا العيد قد انتشرت بين الجميع، و ها أنا بين صديقاتي أتباهى بلعبة الباربي الجديدة التي اشترتها لي أختي. ربما كان ذلك تفكير طفلة في الثامنة لكني تعمدت –و بكل استفزاز- إظهار اللعبة أمام “أميرة” التي كان برودها يلازمها كالعادة، فبغض النظر عن أنها لم تكن تحمل أية هدية، كانت لا تزال ترتدي ملابسها الرثة في حين ارتدى كل من في المدرسة ملابس العيد الجديدة للتفاخر. جلست على الطاولة حين اقترب وقت الحصة لأخبئ لعبة الباربي داخل محفظتي و أنا أتمتم بسخرية متعمدة:

“إنها لعبة باربي جديدة.. لا أظنكِ تعرفينها حتى، أليس كذلك؟ لذا لا داعي لأن تريها أكثر”

لكنها كالعادة لم تأبه لسخريتي، بل بدأت بإخراج أدواتها من محفظتها القديمة أيضا. و أنا –كعادتي- بدأت المشاركة بنشاط و تفاعل مع المعلمة التي استدعتني –كعادتها أيضا- إلى السبورة حتى أحل ما استعصى على البقية من مسائل تاركة خلفي تلك الهالة المظلمة من اليأس و الاحباط التي تحيط بفضاء “أميرة”.

… … …

“توقفي أيتها السارقة !!

ناديتها بغضب حين كانت تسير في طريقها مبتعدة عن المدرسة. إنها المرة الأولى التي أخاطبها بها خارج المدرسة لكني كنت في قمة الغضب مما فعلته. لم تكن قد مرت دقيقتان على انتهاء الدوام المدرسي حين عدت لمكاني -بعدما أنهيت تنظيف السبورة و مساعدة الاستاذة لجمع حاجياتها- و لم أجد “أميرة” في مكانها. بدأت بلملمة أدواتي لأخرج، لكني صُدِمتُ باختفاء دميتي الفاتنة من الحقيبة. لقد كان ذلك مفزعا بالنسبة لي و أول ما خطر ببالي هو الفتاة الرثة البائسة التي تجلس بجانبي لألحق بها بعدما خرجت بسرعة من المدرسة.

لم تجبني و لم تلتفت إليّ أصلا، بل حثت الخطى للأمام هاربة فما كان مني إلا أن ركضت خلفها لأمسكها من حقيبة ظهرها بعنف:

“قلت لكِ توقفي أيتها السارقة، أعيدي إليّ لعبتي !!

تظاهرت بالجهل و هي تحاول تحرير نفسها بضيق:

“اتركيني، أنا لم أسرق شيئا”

لم أستمع لكلمة مما تقول بل سارعتُ لنزع الحقيبة عن ظهرها و شرعت حالا في فتح سلسالها الطويل، و كما توقعت، ظهر بريق شعر دميتي الأشقر بوضوح ما إن فتحت الحقيبة، صاحبَهُ ظهور ابتسامة نصر على شفتي سرعان ما اختفت حين لم أجد الحقيبة بين يدي. كانت “أميرة” قد جذبت المحفظة بسرعة لتركض بجنون نحو الطريق الذي يفصل حيها عن حينا.

“أعيدي إليّ دميتي و إلا أقسم أنني سأشكوك للمعلمة يا سارقة !!

ألقت عليّ نظرة مترددة واحدة لم أفهم معانيها إلا بعد مدة طويلة، قبل أن تستأنف ركضها السريع.. صوت عنيف، عالٍ، و مؤلم صاحبته صورة بطيئة بقدر سرعتها جعلتني أتجمد مكاني فاقدة لكل إرادتي. كان ذلك صوت بوق السيارة التي صدمت “أميرة” في نفس اللحظة التي اجتازت فيها الطريق بتهور. طار الجسد الهزيل -بعد ذلك الاصطدام- عاليا و طارت معه الحقيبة الصغيرة لتتناثر محتوياتها على كامل الطريق لأن صاحبتها –لاستعجالها الهرب- لم تغلقها. و ها هو ذا الجسد الآدمي يسقط بعنف على الأرض ليسقط بجانبه الجسد البلاستيكي. لكن الفرق أن “أميرة” نزفت دما، و “باربي” لم تفعل. “أميرة” تألمت، و “باربي” لم تفعل. عظام “أميرة” تحطمت، و “باربي” لم تكن تملك عظاما من الأساس… “أميرة” قد احتل روحَها الخوفُ و الفزع، أما “باربي” فلم تعرف للروح معنى أبدا.

بدأ الناس بالتجمهر حول الحادث، فيما هربت السيارة المجرمة و صاحبها من المكان بلا عودة أو دليل إدانة. أما أنا فقد جمعت كل ما تبقى من حر إرادتي و شتات تماسكي كطفلة في الثامنة و… هربت من المكان بلا دليل إدانة أنا أيضا، تاركة خلفي لعبة باربي قد بدأ شعرها الأشقر يتلون بدماء “أميرة”.

كان الأمر مخيفا لدرجة أنني لم أذكره لأحد، حتى حينما كانت أسرتي تتحدث –بأسف- عن الحادثة الفظيعة لم أبدِ تجاوبا معهم. و ها هي ذي معلمة صفنا تعلن عن إيقاف الدروس لليوم من أجل زيارة عائلة زميلتنا “الراحلة” و تقديم التعازي لأهلها. كان الجميع يلاحظ صمتي لكنهم لم يسألوا. لربما خمنوا أنني تأثرت لموت الفتاة التي جلست بجانبي لمدة أربع سنوات، لكنهم أبدا لم يخمنوا السبب الحقيقي لصمت القبور ذاك.

… … …

جلسنا جميعا في ذلك الفناء الصغير متزاحمين علنا نجد متسعا لثلاثين شخصا في مكان لا يجدر به حمل أكثر من عشرة متراصين. أبدت معلمتنا –بالنيابة عنا- أسفها الشديد لما حدث، و قدمت التعازي داعية لأهل الفتاة بالصبر و السلوان. كان أسوأ منظر رأيته في حياتي ربما بعد منظر حادثة الأمس، لكني مع ذلك لم أجرؤ على قول شيء، و لم أجرؤ حتى على ذرف دمعة واحدة.

اقترب موعد مغادرتنا حين انضمت للجلوس فتاة في الخامسة قد استعانت بكرسي متحرك. بدا الشبه واضحا بينها و بين “أميرة”.. نفس الوجه الشاحب، و نفس الملامح المشربة بالتعاسة و الشقاء، و لهذا لم أبذل جهدا لأعرف أنها شقيقة “أميرة” الصغرى. الفرق بينهما أن هذه الفتاة هنا لها وجه ينضح بالبراءة و الدفء على عكس “أميرة” التي كانت ترتدي البرود دوما.

“مليكة، تعالي و ألقي التحية يا ابنتي”

كانت هذه كلمات الأم المتعبة لابنتها العاجزة عن السير، و بأيد واهنة و ابتسامة صغيرة دفعت “مليكة” كرسيها المتحرك و تقدمت نحونا:

“مرحبا، أنا مليكة. أميرة هي أختي الكبرى.. أنتم زملاؤها في الصف، صح؟”

أجابت المعلمة نيابة عنا –كالعادة-:

“أجل، هؤلاء طلبة صفها، و أنا معلمتها”

اتسعت ابتسامة “مليكة” و هي تتكلم مجددا:

“أنا سعيدة حقا لقدومكم.. أميرة دوما تحكي لي عن طيبتكم و تعاملكم الجيد معها، قالت أن عليّ أن أصبر قليلا حتى أراكم بنفسي حين أدخل المدرسة. يبدو أنها محقة، فأنتم طيبون جدا و لهذا أتيتم جميعا لتوديعها في طريقها للجنة، شكرا لكم”

كانت كلماتها صادمة للجميع، فمن كان يتوقع أن “أميرة” ستذكرنا بخير أمام شقيقتها و نحن الذين لم نكن نفعل شيئا سوى ازدرائها و إساءة معاملتها. بدأ الجميع حينها بالبكاء حتى المعلمة، الجميع عداي أنا. ربما كانت الدموع قد تجمدت في عيني، أو ربما هي روحي التي لا يزال الخوف يجمدها.. إلى أن تكلمت “مليكة” بما لم أتوقعه.

“أختي أميرة شخص طيب جدا و لهذا يحبها الجميع. لقد طلبتُ قبل العيد لعبة “باربي” كهدية، و قد وعدتني أميرة أن تهديني إياها. إنها فعلا أخت رائعة، فقد اشترت لي الدمية لكن الله أراد أخذها عنده قبل أن تهديني إياها، إلا أن أميرة لطيبة قلبها لم تأخذ الدمية معها بل تركتها لي”

كان الجميع يبكون متأثرين لصبر الفتاة و براءتها معا. أما أنا –و لأول مرة منذ الأمس- أطلق العنان لدموعي و أجهش بالبكاء بصوت مرتفع. ليس بسبب سلوك “مليكة” الصبورة، و لكن بسبب كلماتها التي بدا لي أن “أميرة” هي من تركتها لي خلفها حتى أفهم سبب أخذها لدميتي.

فكرت في الأمر طويلا بعدها، إن “أميرة” رغم كل إساءاتنا لها، لم تأخذ شيئا من أغراضنا أبدا. دمية الباربي تلك كانت أول شيء تسرقه.

… … …

وقفت أمام ذلك القبر الصغير بعدما نزعت عنه الأوراق الذابلة و نظفت جوانبه و بنظرة عميقة مع ابتسامة حزن تكلمت بخفوت:

“مرحبا أميرة.. أرجو ألا أكون قد تأخرت في زيارتي كثيرا. جئت لكِ بأخبار سارة.. لقد ظهرت نتائج الامتحان النهائي اليوم.. مليكة قد نجحت و بامتياز أيضا، ستُقبَل بالتأكيد في كلية الهندسة. أتعلمين؟ لقد التقطت صورة التخرج مع دمية الباربي التي أهديتِها إياها دون آبهة لسخرية زميلاتها، يبدو أنها ورثت اللامبالاة منكِ. بالرغم من أني اشتريت لها العديد من الدمى بعدها إلا أنها تفضل تلك اللعبة بالذات، لأنها هديتكِ أنت ربما. حسنا، سأغادر الآن، إلى اللقاء”

كانت هذه واحدة من الزيارات الخفيفة التي أقوم بها طيلة ثلاثة عشر سنة لقبر “أميرة”. أحكي لها عن جديد “مليكة” التي صارت –بطريقة ما- بمثابة أختي الصغرى. اهتممت بها و صادقتها و اشتريت لها العديد من الدمى. أما أنا لم أشترِ لنفسي لعبة واحدة بعد تلك الباربي.. و لم ألعب بالدمى أبدا.

سرت في طريقي خارجة من المقبرة التي تقع على الجانب الآخر من الطريق الذي أودى بحياة “أميرة”. الطريق الذي لازلت حتى الآن أرتعش خوفا حين أقوم بعبوره. الطريق الذي لم أخبر أحدا عن قصته حتى الآن.. ربما لأنها قصة جعلت مني “مجرمة”.

تمت بحمد الله
“أميرة”

بقلم: سمية بن عبد الله فقير

عن Yellow Sea

شاهد أيضاً

وش قصة ابوة…..؟؟؟

يقول صاحب القصة كان والدي من المسلمين المحافظين على صلاته ولكنه كان يفعل كثيراً من …