بسم الله الرحمن الرحيم

قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ “



الآية رقم (12) من سورة الأنعام !!
تلك الآية استوقفتني كثيرا وقفة تأمل أكبر من الوصف والتعبير
فمن الذي كتب على نفسه الرحمة ؟ ولماذا؟

منقول بتصرف من روائع سيد قطب ..


إن الذي يستوقف النظر في هذا النص هو ذلك التفضل


تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده تفضله سبحانه بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصورة مكتوبة عليه كتبها هو على نفسه ;


وجعلها عهدا منه لعباده بمحض إرادته ومطلق مشيئته وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشري لتمليها وتأملها وتذوق وقعها ;


حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة كذلك يستوقف النظر مرة أخرى ذلك التفضل الآخر الذي يتجلى في:


إخباره إيانا نحن العباد بما كتبه سبحانه على نفسه من رحمته فإن العناية بإبلاغهم هذه الحقيقة هي تفضل آخر لا يقل عن ذلك التفضل الأول


فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم أن يبلغوا ما جرت به إرادة الله في الملأ الأعلى وأن يبلغوا بكلمات منه سبحانه يحملها إليهم رسوله من هم إلا أنه الفضل العميم الفائض من خلق الله الكريم

إن تدبر هذه الحقيقة على هذا النحو ليدع القلب في عجب وفي دهشة ; كما يدعه في أنس وفي روح لا تبلغ الكلمات أن تصور جوانبه وحواشيه ومثل هذه الحقائق وما تثيره في القلب من مشاعر ;


إن رحمة الله تفيض على عباده جميعا ; وتسعهم جميعا ; وبها يقوم وجودهم وتقوم حياتهم وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها ; ولكننا نذكر منها لمحات في مجاليها الكبيرة إنها

تتجلى ابتداء في وجود البشر ذاته في نشأتهم من حيث لا يعلمون


وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم ; بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين


وتتجلى في تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان من قوى الكون وطاقاته وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته


وتتجلى في تعليم الله للإنسان بإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة ; وتقدير التوافق بين استعدادته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله وهو الذي علمهم إياه وهو من رزق الله بمعناه الواسع الشامل


كذلك وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى كلما نسي وضل


وأخذه بالحلم كلما لج في الضلال ; ولم يسمع صوت النذير ولم يصغ للتحذير وهو على الله هين ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمهله وحلم الله وحده هو الذي يسعه


وتتجلى في تجاوز الله سبحانه عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب


وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب


وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء ومحو السيئة بالحسنة

وكل ذلك من فضل الله فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عن نفسه في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله والإقصار منا عن متابعة رحمة الله في مظاهرها وإعلان القصور والعي عنها هو أجدر وأولى وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئا ..


وإن لحظة واحدة يفتح الله فيها أبواب رحمته لقلب العبد المؤمن ; فيتصل به ; ويعرفه ; ويطمئن إليه سبحانه ويأمن في كنفه ; ويستروح في ظله إن لحظة واحدة من هذه اللحظات لتعجز الطاقة البشرية عن تمليها واستجلائها فضلا على وصفها والتعبير عنها فلننظر كيف مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الرحمة بما يقربها للقلوب شيئا ما <


أخرج الشيخان بإسناده عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى الله الخلق وعند مسلم لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي وعند البخاري في رواية أخرى إن رحمتي غلبت غضبي >


وأخرج الشيخان بإسناده عنه رضي الله عنه قال قال رسول الله ص < جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه >


وأخرج مسلم بإسناده عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال قال رسول الله ص < إن لله مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم وتسعة وتسعون ليوم القيامة > وله في أخرى < إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها في الأرض رحمة واحدة فيها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها الله تعالى بهذه الرحمة >


وهذا التمثيل النبوي الموحي يقرب للإدراك البشري تصور رحمة الله تعالى ذلك إذ ينظر إلى رحمة الأمهات بأطفالها في الخلائق الحية ويتملاها ويعجب لها وإلى رحمة القلوب البشرية بالطفولة والشيخوخة والضعف والمرض ; وبالأقرباء والأوداء والأصحاب ; وبرحمة الطير والوحش بعضها على بعض ومنها ما يدعو إلى الدهش والعجب ثم يرى أن هذا كله من فيض رحمة واحدة من رحمات الله سبحانه فهذا مما يقرب إلى إدراكه تصور هذه الرحمة الكبرى شيئا ما

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ويذكرهم بهذه الرحمة الكبرى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تسعى قد تحلب ثديها إذ وجدت صبيا في السبي فأخذته فألزقته ببطنها فأرضعته فقال صلى الله عليه وسلم < أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار > قلنا لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه قال < فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها > أخرجه الشيخان

وكيف لا وهذه المرأة إنما ترحم ولدها من فيض رحمة واحدة من رحمات الله الواسعة ومن تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه هذه الحقيقة القرآنية بهذا الأسلوب الموحي كان ينتقل بهم خطوة أخرى ; ليتخلقوا بخلق الله هذا في رحمته ليتراحموا فيما بينهم وليرحموا الأحياء جميعا ; ولتتذوق قلوبهم مذاق الرحمة وهم يتعاملون بها كما تذوقتها في معاملة الله لهم بها من قبل


عن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم < الراحمون يرحمهم الله تعالى ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء > أخرجه أبو داود والترمذي


وعن جرير رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم < لا يرحم الله من لا يرحم الناس > أخرجه الشيخان والترمذي


وفي رواية لأبي داود والترمذي عن أبى هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم < لا تنزع الرحمة إلا من شقي >


وعن أبى هريرة كذلك قال قبل رسول الله ص الحسن بن علي رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس فقال الأقرع إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال < من لا يرحم لا يرحم > أخرجه الشيخان


ولم يكن صلى الله عليه وسلم يقف في تعليمه لأصحابه رضوان الله عليهم عند حد الرحمة بالناس وقد علم أن رحمه ربه وسعت كل شيء وأن المؤمنين مأمورن أن يتخلقوا بأخلاق الله ; وأن الإنسان لا يبلغ تمام إنسانيته إلا حين يرحم كل حي تخلقا بخلق الله سبحانه وكان تعليمه لهم بالطريقة الموحية التي عهدناها


عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم < بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله تعالى له فغفر له > قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا قال < في كل كبد رطبة أجر > أخرجه مالك والشيخان

وفي أخرى إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع أي أخرج لسانه من العطش فنزعت له موقها أي خفها فغفر لها به

وعن عبد الرحمن بن عبدالله عن أبيه رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأينا حمرة طائر معها فرخان لها فأخذناهما فجاءت الحمرة تعرش أو تفرش أي ترخي جناحيها وتدنو من الأرض فلما جاء رسول الله ص قال < من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها >


ورأى قرية نمل قد أحرقناها فقال < من أحرق هذه قلنا نحن قال إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار > أخرجه أبو داود


وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم < قرصت نملة نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فحرقت فأوحي الله تعالى إليه أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح > أخرجه الشيخان



وهكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه هدى القرآن
ليتذوقوا رحمة الله من خلال مزاولتهم للرحمة” أليس أنهم إنما يتراحمون برحمة واحدة من رحمات الله الكثيرة وبعد فإن استقرار هذه الحقيقة في تصور المسلم لينشى ء في حسه وفي حياته وفي خلقه آثارا عميقة ; يصعب كذلك تقصيها ..

منقول بتصرف
.
.
.

وأخيرا ..
أسأل الله لي ولكم وللمسلمين جميعا أن يشملنا الله بواسع برحمته


9 thoughts on “كــــــــــــــــــــتب على نفسه الرحمة ؟


  1. أسأل الله تعالى جلت قدرته أن يدخلنا في رحمته ويحشرنا تحت لواء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام

    جزاكِ الله خيرا اختاه على الموضوع القيّم وجعله في ميزان حسناتك

  2. ” اللهم لك الحمد حمدا كثيرا .. سبحانك ما أرحمك “

    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .

Comments are closed.