ارجو منكم قراءة للقصه للعضه
إذا كان الشعر ينفلت عن التحديد المفهومي الدقيق باعتباره ضرورة وكفى، فهل يمكن وضع تحديد دقيق لمفهوم الشاعر؟ لنقل : إن الشاعر هو الذي يقول شعرا، يكتبه، يلقيه، يخرجه من منطقة ما قد تكون مظلمة أو مضيئة لاختلاف الحالات والأوقات وتنوع الفراغات التي يخرج منها كل شعر .
الشاعر هو الذي يقول الشعر، وإذا قال نثرا وكتب رواية أو دراسة عقلية رياضية مثلا، لا مجال فيها للتـأمل، كلها براهين وعلامات ألا نعتبره شاعرا .هذه مشكلة تقودنا إلى الاستنجاد بالتراث العربي والعالمي لضبط المفهوم، وفك هاته الازدواجية .
حين يُنفخ في الروع تأتي اللغة، ويدخل جني هو الذي يوحي للشاعر الإنسان بقول الشعر، فيتحول من كائن عادي إلى شخص آخر، قد يتحكم فيه عبقر وما شابه. ازدواجية أخرى: جني/إنسان. فما هي المنطقة التي يتربعها هذا الجني ؟ ما لون هذا الجني؟ الجني الأحمر أكثر شيطنة من غيره. والجني هو غير الشيطان. شياطين الشعر هم شياطين الجنة لا النار، الحب لا الحقد، الحرية لا الاستعباد الشيطان يحضر كذلك كما يحضر الجني فتأتي اللغة، هل الشاعر جني أم شيطان أم نبي باعتباره صاحب رسالة هو أيضا ؟
كان آدم شاعرا، أنشأ أول قصيدة في الدنيا نتيجة حالة مروعة لم يسبق لها مثيل هي قتل الأخ لأخيه، هابيل وقابيل ، أول قتيل وأول قاتل وحالة جديدة في دنيا آدم النبي، وقصيدة تأتي نتيجة الحالة الطارئة التي ستتحول إلى شبه عادية مع تقدم الزمن، قصيدة سيتفق عليها عمداء الرواية التاريخية العربية القديمة : أبو زيد القرشي، والطبري، والمسعودي، والثعلبي ، وخاصة مطلعها الذي يقول :
تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيـح
تغير كل ذي طعم ولون وقل بشاشـة الوجه الصبيح [1]
فعل إبليسي، شيطاني ، سيثير حفيظة الجني، وسيأتي الشعر على لسان النبي الذي سيتغير سلوكه، فيقيم في الدنيا سنة لا يضحك ولا يطأ حواء، حسب رواية الثعلبي إلى أن : “أوحى الله تعالى، يا آدم إلى كم هذا البكاء والحزن .” [2] فقد، وحزن، وشعر، وتأريخ بلغة يصعب ضبط مصدرها ، وعلى لسان شاعر هو حتما ناظم آخر رتب الكلام العربي، وقال أبياتا كان لا بد لآدم النبي أن يقولها[3] . فمن هو الشاعر ؟ وما مفهومه انطلاقا من البدايات ؟
حين ادعى المتنبي النبوة، لم يفعل ذلك طواعية، بل استجابة لشيطان أو جني ـ أتخيله أحمر ـ كان يسكنه باستمرار ، شيطان سيتحول إلى متنبئ، في انتظار النبي. ولكن انطلاقا من إنسان، وبلغة إنسان هو هنا عروبي صحراوي ينشد الكونية ومعها الحرية، وقد حققهما.
يسكن الجني أو الشيطان أو النبي جسد الشاعر الإنسان ويقيم فيه، ويحول سكناه إلى إقامة دائمة في المكان ولكن الأهم هو إقامتهما في الزمان.زمن إقامة الجني يرتبط بمكانه، فيحول الساحر ( الشاعر ) إلى مسحور، مسكون بآخر يتحكم ولا يريح إلا بالخروج من القمقم الذي يقيم فيه بشكل دائم لا عرضي. مفهوم الشاعر إذن يأتي من الخروج، خروج من سكون، وإقامة دائمة ومستمرة في الشيء، باللغة وتجلياتها، في المشهد الآني المستند إلى سكنى الجني في قمقم الذات ، في مسام العقل وفي فوران الروح العاتية .