البورصة داء وليست دواء
عندما يخفت صوت الحكمة تحت وطأة ترويع اقتصادي ممنهج , تتعالى الأصوات بأن البورصة تدخل دوامة الإفلاس الرهيبة , وإذا أفلست تعرض الاقتصاد القومي لكارثة عنيفة !.
والدعوات تتوالى بالتدخل لإنقاذ البورصة بأموال المودعين في البنوك , ومساهمة المصريين في الداخل بمبلغ 100 جنية لشراء أسهم , وتبرع المصريين العاملين بالخارج والأخوة العرب بمبلغ 100دولار لرد
الجميل لمصر !.
بعض هذه الدعوات التي تتخوف على الاقتصاد القومي من انخفاض حجم التعامل في البورصة صادر عن أشخاص لا نشك في أن دوافعهم وطنية ولكنهم لا يدركوا تبعات مايدعون إليه . والبعض الآخر من أصحاب هذه الدعوات
له أغراض ومصالح وأهواء مختلفة لا علاقة لها بدعم الاقتصاد بل أن حرصهم على تحقيق مصالحهم يؤدي إلى هدم الاقتصاد القومي .
البورصة لا تفلس
يحلو للبعض استخدام كلمات فيها إثارة في غير موضعها لسبب أو لآخر , فيطلق كلمة إفلاس على إغلاق , أو إيقاف , أو انخفاض حجم التداول في البورصة , وينسى أن البورصة ليست مؤسسة إنتاجية أو شركة تجارية ,
لها مستحقات عند عملائها وعليها ديون لمورديها , فيتم إفلاسها لصالح الدائنين , ويغفل أن وظيفتها هى نقل ملكية الأسهم من البائعين إلى المشترين مقابل الحصول على رسوم من الطرفين , كالشهر العقاري تماماً
فكيف يتم إفلاس البورصة !.
توقف البورصة لا يعرض الاقتصاد القومي لكارثة
لو عدنا بالذاكرة إلى الماضي وبالتحديد بعد ثورة 1952 , وزيادة التأييد والحماس الوطني نحو المشاركة في التنمية الاقتصادية , وبعد تمصير البنوك في 1956 , وصدور اللائحة العامة لبورصات الأوراق
المالية في 1957 , وما صاحب ذلك من حملات مكثفة من جانب الحكومة لاستثارة الحماس الوطني للمشاركة في الخطة الخمسية الأولى ، كل هذا أدى إلى زيادة إقبال طبقات الشعب على الاستثمار في البورصة ، لدرجة أن
أصحاب المدخرات الصغيرة باعوا ما يملكون من عقارات وحلي ودخلوا البورصة ، فزاد الطلب على الأوراق المالية وتضاعفت أسعارها في الفترة من 1957- 1959 .
ونظراً لعدم وضوح الرؤية لدى المسئولين عن الحكومة في ذلك الوقت , بالإضافة إلى أن كبار المغامرين المراهنين على الصعود تمكنوا من التلاعب بالأسعار في البورصة , عن طريق الشراء في أول الجلسة ثم
تسخين السوق ودفع الأسعار للارتفاع ثم الخروج في آخر الجلسة , مستفيدين في ذلك من تضارب قرارات الحكومة , مما سبب لصغار المتعاملين الذين انجذبوا للبورصة نتيجة تشجيع الحكومة لهم - دون أن تكون لديهم خبرة
أو دراية بتعاملات البورصة - خسائر فادحة أضاعت أموالهم وسلبت أحلامهم في الثراء السريع .
بعد انهيار أسعار الأسهم في 1959, وفقدان المتعاملين لثقتهم في البورصة , توارت البورصة من حياة المصريين اعتباراً من 1960 , وأصبحت في طي النسيان ونسي المصريين اسمها , وألغت كليات التجارة
والاقتصاد من مقرراتها منهج تدريس البورصات , وظلت البورصة مختفية حتى صدور قانون سوق رأس المال في 1992 ولائحته التنفيذية في 1993 .
لذا فإغلاق البورصة أو توقفها أو انخفاض حجم التداول فيها لا يشكل أي ضغط على الاقتصاد , فقد ظلت البورصة المصرية متوقفة لسنوات طويلة دون أي تأثيرات سلبية جوهرية على الاقتصاد المصري , لأنها في
الحقيقة لا تمثل سوى نقل ذمم مالية بين الأفراد المتعاملين دون أن يكون لها أي تأثير ايجابي على الاقتصاد العيني , وعلى العكس من ذلك فإن الذي يشكل ضغط على الاقتصاد هو استمرار عمل البورصة كسوق تداول ,
وليس سوق إصدار .
لا لدعم البورصة بأموال البنوك
دعم البورصة بأموال المودعين في البنوك يضر بالاقتصاد أشد الضرر , لأنه يسحب الأموال المدخرة التي من المفترض أن تستخدم في تمويل المشروعات في مجال الإنتاج الفعلي , ويضخها في مجال النشاط المالي
الطفيلي , لتستخدم في عمليات تداول وهمية بمليارات الجنيهات يومياً , يستفيد منها فئة محدودة ومخصوصة على حساب صغار المتعاملين , دون إضافة أي قيمة إنتاجية للاقتصاد , أو المساعدة في إيجاد فرص عمل للعاطلين
في المجتمع .
المطلوب المساهمة في الاقتصاد الحقيقي
يجب أن تكون الدعوات الموجهة للمواطنين بالمساهمة في البورصة لدعم الاقتصاد الحقيقي دعوات حق لا يراد بها باطل , بمعنى أن يكون شراء الأسهم بهدف تملك الشركات المصدرة لهذه الأسهم , باعتبار أن الأسهم
تمثل حصة في ملكية أصول وموجودات هذه الشركات . وأن يكون التملك بغرض المشاركة في استثمار حقيقي طويل الأجل , وما يترتب عليه من حضور الجمعيات العمومية للمساهمين , ومناقشة تقارير مجالس الإدارات وميزانيات
الشركات , وإبداء الرأي في توزيع الأرباح المحققة من عوائد نشاط الشركات الفعلي الذي نشأت من أجله .
ولا يكون الغرض من دعوات المساهمة في البورصة مجرد استغلال لعاطفة صغار المدخرين الوطنية لتعليمهم شراء الأسهم لأن سعرها الآن مغري للغاية , وسترتفع إلى الضعف أو أكثر بعد استقرار الأوضاع السياسية
والأمنية , وتحصيل مكاسب بدون عمل أو إنتاج حقيقي فيستقر في وجدانهم أن المراهنة على ارتفاع أسعار الأسهم نوع من الاستثمار , ومن ثم يصبحوا بعد ذلك لاعبين في البورصة وسرعان ما يتحولوا إلى ضحايا لها ,
وعندها فقط سيعلمون أن أموالهم اتجهت لدعم كبار المقامرين لتقليل خسائرهم وليس لدعم الاقتصاد .
لا للتسول باسم مصر
أشد ما يحز في النفس التسول والاستجداء من الأبناء أو الأشقاء أو الأصدقاء , للتبرع بمبلغ 100 دولار لدعم مصر , وتغليف التسول والمهانة في صورة من صور رد الجميل لمصر !.
مصر دولة غنية بمواردها وبشعبها الأصيل , الذي ثار ليسترد حريته ويحصل على حقوقه ولا يتسولها من حاكمية . والمصريين على مر العصور أغنياء في نفوسهم , كرماء مع غيرهم في أحلك الأوقات , فلا لإهانة مصر
وشعبها بتسول المعونة , أو مطالبة الغير برد الجميل , ولا تتصوروا أن تغير الأحوال التي هي سنة من سنن الله , تجعلنا نرضى بالتسول من شقيق أو صديق , ونستطيع أن نصبر ونعتمد على الله ثم على مواردنا المادية
والبشرية ونعبر المحنة .
ومع هذا يمكن القول بصدق لكل من يبحثون عن فرص استثمارية لأموالهم أن مستقبل مصر واعد في مجال الاستثمار وتحقيق الأرباح , بشرط أن يكون الاستثمار في مجال إقامة المشاريع الإنتاجية الزراعية والصناعية
والمشاريع الخدمية لتحقيق المنفعة المشتركة للمستثمرين وللاقتصاد المصري . ومن الصدق أيضاً القول لا لتوجيه الأموال إلى البورصة لتحقيق مكاسب سريعة من النشاط المالي الطفيلي على حساب الانتقاص من موارد
الاقتصاد القومي الحقيقية .
لماذا يحرص المسئولين على زيادة حجم التداول ؟
من المعلوم أن التعاملات في البورصة لا يستفيد منها الاقتصاد الحقيقي لأن تداول الأسهم في البورصة مهما بلغ حجمه لا يتعدى نقل الملكية من طرف إلى آخر , دون أي فائدة تعود على الشركات المصدرة لتلك
الأسهم .
ومن المعلوم أيضاً أن التعامل في البورصة إن كان بين المصريين فإن البعض يكسب والبعض الآخر يخسر بنفس المقدار , وتظل الأموال داخل الدولة مع تركيزها في يد فئة محدودة ومعروفة , وهذا يمثل خلل
في توزيع الثروة يضر بالاقتصاد ويهدد الأمن الاجتماعي .
أما إن كان التعامل بين المصريين والأجانب وارتفعت الأسعار وباع الأجانب ما يملكون من أسهم وحولوا الأموال إلى الخارج , فإن هذا يمثل استنزاف لاحتياطي النقد الأجنبي في صورة تحويلات للخارج دون
الحصول على ما يقابلها من إنتاج أو خدمة . وتحويل الأموال للخارج يعني فقد عنصر من عناصر الانتاج من دائرة الاقتصاد مما يعيق عملية التنمية , ويسبب أضرار بالغة للاقتصاد الإنتاجي الحقيقي .
في تصوري أن حرص المسئولين على زيادة حجم التداول في البورصة , رغم علمهم بأن زيادة حجم التداول معناها المزيد من الضرر على الأفراد والاقتصاد , يرجع إلي التزاوج السياسي بين السلطة ورأس المال .
لأنه عندما يصبح صاحب رأس المال مسئول سياسي فإنه سيعمل على تحقيق المصلحة الخاصة له ولفئة أصحاب الأموال الذين تتشابك مصالحه معهم , ويكون ذلك على حساب الصالح العام لأفراد المجتمع , وعلى حساب التخطيط
للنهوض بالاقتصاد , ويصبح الهدف الأول للمسئول السياسي هو الحصول على المال من أيدي أفراد المجتمع بشتى الطرق والوسائل .
وأسرع وسيلة للاستيلاء على أموال أفراد المجتمع بصورة مقننة هي تشجيعهم وإغراؤهم عن طريق الدعاية المكثفة والممنهجة على المضاربة " المراهنة والمقامرة " في الأسهم بالبورصة , ودغدغة مشاعرهم الوطنية
بضرورة إنقاذ البورصة لمنع تعرض الاقتصاد لكارثة عنيفة , ويصاحب هذه الدعاية التلاعب بأحلامهم في الثراء السريع والسهل بمجرد شراء وبيع الأسهم , لأن الأسعار في أدنى مستوياتها وفرص الربح مؤكدة
ومضمونة في الأجل القريب .
بهذه الطريقة يلتهم الحيتان أموال البسطاء وصغار المتعاملين بدون عناء أو مجهود , ويجني الوسطاء وأصحاب شركات تداول الأسهم العمولات , ويحصل العاملين في البورصة من أولاد الأكابر والمحظوظين على
رواتب بعشرات الآلاف من الجنيهات , وتأخذ الدولة نصيبها في صورة رسوم تقدر بجزء في الألف وفي حقيقتها تصل لنسبة مئوية , نتيجة التداول لأكثر من مرة في الجلسة الواحدة , ومضاعفة مبالغ التداول بالبيع على
المكشوف والشراء بالهامش , وهكذا يستولي حلف الفساد الناشئ عن زواج السلطة برأس الما