سٍ: ماهي أعظم مزية اختص الله تعالى بها العقل البشري وأقول إن للعقل سلطانا مطلقا ومقيدا فالمطلق يحق للعقل البشر الخوض فيه وما يتوصل إليه فهمهم من استنباط الأحكام لأن العقول تتفاوت من شخص لآخر فالرسول الأعظم اجتهد دون نزول الوحي عليه كما في كثير من الحوادث كحادثة أسرى بدد مثلا (عفا الله عنك لما أذنت لهم) التوبة: (45) وكذلك صحابته الكرام عندما بعثهم إلى بني قريظة بقوله لهم لا يصلي أحدكم العصر إلا في بني قريظة فخشي بعضهم من فوات الصلاة وخشي البعض الآخر من مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم فكل فريق اجتهد بما رآه أصوب ولم يعب النبي عليه السلام على أحد منهم في اجتهاده بل اقرهم جميعا فهذا الذي توصلت إليه عقولهم.. وسار التابعون على نهجهم فشاع الاجتهاد في الأحكام الظنية دون الأحكام القطعية كما في أمور العقيدة لأنها لا تنبني إلا على اليقين التام، وأما سلطان العقل المقيد فلا مجال للخوض فيه لأن باب الاجتهاد رجم وسد منفذه فلا جدوى لاختراق ذلك الجدار وهذا يتمثل في الآيات المحكمة فالعقل يقف عندها كما في قوله تعالى (قل هو الله احد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) الإخلاص: (1 ـ 4) فلا شريك ولا ند ولا صاحبة…لله تعالى فهو المتفرد الوحيد في هذا الكون وكان قبل خلق الزمان والمكان وهو الآن ما عليه كان وكقوله تعالى (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين) الانفطار: (13ـ16) فهذه الآيات واضحة المعني لا لبس فيها ولا غموض ولا تحتاج إلى تأويل فلا يعقل أن نرد المحكم إلى محكم بل نرد المتشابه من القرآن إلى المحكم لتعدد معاني المتشابه وهناك كثير من الآيات لا مجال للعقل أن يخوض فيها لأنها من المسلمات الحقيقية لا تقبل التأويل، هذا ومن خصائص العقل النبيه أيضا أنه يرد المتشابه إلى المحكم لوجود لبس في المتشابه لأنه إن لم تؤول بعض الآيات المتشابهة لاضطربت معانيها وسيأخذ أعداء الإسلام الحجج بقولهم أن هذا القرآن متناقض وحاشا لله تعالى ذلك لأن هذا القرآن (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) فصلت: (42) ونعود إلى تأويل الآيات المتشابهات ونقول لابد للعقل أن يؤولها كقولها تعالى (ولتصنع على عيني) طه: (39) (تجري بأعيننا) القمر: (14) فكل هذه الآيات من المتشابه لأن العين تأتي بمعني الحفظ والعناية ولعل عند عوام الناس تعرف العين بالحفظ كقولهم أنت في عيوني فلو لم نؤول العين بمعنى الحفظ للزم أن نشبه الله تعالى بمخلوقاته الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وكذلك العقل البشري لا يصدق أن موسى عليه السلام صنع على عين الله ولا تجري السفينة كذلك بالعين فالمقصود بالعين إذا الحفظ والرعاية والمراقبة ولا يلزم أن تكون العين جارحة فلا محيص من صرف الآيات القرآنية المتشابهة بقرينة عن ظاهرها لنسلم من التشبيه وغيره وهناك كثير من الآيات المتشابهة يجب على العقل تأويلها كما في الآية (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) المجادلة: (22) (فمن المعلوم قطعا أنه ليس المراد من ذلك أنه ـ سبحانه وتعالى ـ أخذ القلم وسطر الإيمان في قلوب هؤلاء الناس كما يأخذ أحدنا القلم ويسطر في اللوح، أو الورق الكلمات التي يكتبها، وإنما المراد بذلك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل الإيمان في قلوبهم ثابتا كما تثبت الكتابة في اللوح).
ومن مزايا العقل البشري أنه يحاول إيجاد الحلول للمشاكل المشابة بالغبار الكثيف فيعمل هذا العقل على تنقية الجو فيلطفه بحكمته ورأيه السديد فكم من عاقل أطفأ النيران الملتهبة على الشعوب فكانت نتيجة ذلك إحلال الأمن والسلام بين الشعوب فتمتع بالسعادة والرقي كل ذلك بتوفيق من الله تعالى وتوظيف العقل السلم لتلك القضايا، ومن فوائد العقل العمل على توحيد الصف المسلم فهو يربط المسلمين بحبل الله المتين ونوره المبين فيجعل كل مسلم يشعر بما يصيب إخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من القذى والأذى فيصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم المسلم الذي يكون متماسك الخيوط متشاد البنيان كما جاء عند الإمام مسلم (ت 261 هـ) من طرق النعمان بن بشير (ت 65 هـ) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) وشرح الإمام النووي (ت 677 هـ) قوله عليه السلام (تداعى لها سائر الجسد) أي دعا بعضه بعضاً إلى المشاركة في ذلك، ومنه قوله: تداعت الحيطان أي تساقطت أو قربت من التساقط) والعقلاء من الناس المتصفين بنقاوة الذهن ونظافة البصيرة لا يخوض أحدهم في المسائل الجدلية إلا بعد أن يتشبع من العلم القويم الذي يدحض الحجج القوية ليتغلب على الباطل ولكي لا يكون أيضا عرضة من الذين قال فيهم ربنا عز وجل (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فانه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) الحج: (3ـ4)
ومهما يكن من أمر فالحواس الخمس توصل مجموعة من الأحاسيس للعقل فيقوم بدوره (بحفظها وجمعها ومقارنتها وإدراك العلاقة بينهما بعد أن يقوم العقل بأساس البحث والتأمل والمناقشة في صحة الأفكار أو عدمها) وعندما يكون الجو الخانق بدخان التعصب المذهبي يتدخل الناس بعقولهم حاملين الآراء التي تسيطر على هذا الدخان الملوث بالأفكار المشتته فتهيل التراب أو تصب الماء البارة لتلاشي ذلك.
هذا فكنوز العقل كثيرة ووفيرة يجب علينا استغلال منابعها الاستغلال الامثل والأصوب لنواكب الحضارة فنستقي من الماضي ونتكيف مع حاضرنا المعاصر ونعد لمستقبلنا علينا أن نجد في ميدان العمل ونحرك هذه العقول لتجني لنا الثمار الناضجة بالجد والاجتهاد.اللهم متعنا بأسماعنا وعقولنا وأبصارنا وانصرنا على من ظلمنا وعادانا اللهم آمين.

منقول