جزاء سنمار يصيب كاشف فساد إعادة الأعمار.

1-

قصة سنمار والملك النعمان من أشهر قصص التراث العراقي السابق للإسلام. وهي خير تعليق على أوضاع إعادة الأعمار في عصرنا.

كان النعمان ملك العراق خلال الأعوام 390 – 418 ميلادية. وكانت عاصمة مملكته مدينة الحيرة (وموقعها قريب من النجف اليوم).

بحث النعمان عن موقع صحي لإقامة ابنه حين مرض، وانشأ في ذلك الموقع قصر: الخورنق. وتُجمع المصادر ان الذي قام ببناء القصر رجل يقال له سنمار، يوصف بانه من “العلوج.” كما قال الشاعر:

فقال اقذفوا العلج من فوق برجه فهذا لعمر الله من أعجب الخطب.

ومن الطريف ان “علج” ذلك الزمان تصرف مثل علوج زماننا. اذ ماطل كثيراً في أعمار القصر. والقصة ننقلها من كتاب معجم البلدان للياقوت: “وبني الخورنق في ستين سنة، بناه رجل من الروم يقال له سنمار، فكان يبني السنتين والثلاث، ويغيب الخمس سنين، فيُطلب فلا يوجد، ثم يأتي فيحتج، فلم يزل يفعل هذا الفعل ستين سنة حتى فرغ من بنائه، فصعد النعمان على رأسه، ونظر الى البحر تجاهه، والبر خلفه، فرأى الضب والظبي والنخل، فقال: ما رأيت مثل هذا البناء قط، فقال له سنمار: إني أعلم موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله، فقال النعمان: أيعرفها أحد غيرك؟ قال: لا، قال: لا داعي أن يعرفها أحد. ثم أمر به فقذف من أعلى القصر إلى أسفله، قتقطع، فضربت العرب المثل.

وبقي قصر الخورنق لأكثر من ثمانمائة عام. ولم يتهدم حتى القرن الثامن الهجري. وشاهده الرحالة ابن بطوطة أثناء رحلته من مشهد علي الى البصرة، وقال عنه: “فنزلنا الخورنق موضع سكنى النعمان بن المنذر وملوك بني ماء السماء، وبه عمارة وبقايا قباب ضخمة، في فضاء فسيح على نهر يخرج من الفرات.”

وقصة سنمار والملك النعمان سواء صدقت او احتوت بعض مبالغات القُصاص لها دلالات واضحة وتعبر عن خواص أصيلة في النفسية العراقية. فأبناء الرافدين بشكل أساسي يعتمدون على النفس، ويتضايقون من الاستعانة ب”علج” يعمر قصور بلادهم. والقصة توضح ان الأجنبي يتعمد التسويف في الأعمار حتى يحتاج الناس له ويضطرون للاعتماد عليه. كما انه حين يعمر البلاد يكشف خصوصياتها، ونقاط قوتها وضعفها. وهكذا يعرف سنمار موضع حجر لو زال لانهار القصر بأكمله. وحفاظاً على قوة البلاد يقوم النعمان بإلقاء ” سنمار” من قمة القصر الذي بناه، حتى لا يعرف أحد نقاط الضعف في البناء. ورمزية قصة سنمار تدل على ان الأمريكي، حتى لو حقق وعده وأعاد أعمار العراق، فأهل البلاد في النهاية سيقتلوه او يطردوه.

وللقصة مغزى آخر: فعملية الأعمار تتطلب وقتاً طويلاً. بناء قصر الخورنق اقتضى60 عاماً. ولكنه بقي ل800 عام رمزاً لحضارة كانت وبادت.

نقارن هذا بما حل بأعمار صدام للعراق. لماذا لم يبق اليوم مما بناه شيء؟ ربما لان عملية الترميم في الواحد وتسعين كانت مثل ترقيع ثوب بالي.

كذلك، اجبر نظام صدام الناس على العمل والبناء، فلم يشعروا ان ما بنوه ملك لهم. وهكذا، ما ان سنحت الفرصة، وانهار الأمن حتى قاموا بتدمير كل ما بُني في ذلك العصر. البناء الذي يبقى يتطلب قناعة الناس بحاكمهم.

ما سنلقي الضوء عليه في باقي هذه المقالة هو الفساد في مشاريع إعادة الأعمار في العراق، والذي ينتج عنه إطالة مدة معاناة عامة الناس. وكما سنلاحظ ف:”علوج” هذا الزمان اغتنوا من أموال إعادة الأعمار بدون ان يبنوا قصر الخورنق. ولا حتى مدرسة.

2-

وقد نشرت مجموعة “الشفافية الدولية” Transparency International تقريراً محزناً عن الفساد المستشري في مشاريع إعادة الأعمار. عنوان التقرير “الفساد في العراق الجديد” وكتبه السيدان رينود لدنرز، وجوستن الكسندر. يقول التقرير ان العراق بدلاً من ان يتحول لواحة للديمقراطية والرخاء، قد يصبح “اكبر فضيحة فساد في تاريخ البشرية.” ويطالب فوراً بصناعة مؤسسات تراقب ما يحدث لأموال النفط العراقي. فالاهتمام حالياً يتوجه بشكل كلي الى الأمن وتحركات الأحزاب السياسية، بينما تبقى الأموال بلا رقابة.

ومن الأمثلة المحزنة ان تعلن الولايات المتحدة، في يوم الانتخابات، 30 – 1- 2005، عن اختفاء 9 مليارات دولار من أموال النفط العراقي كان يفترض ان تذهب لإعادة الأعمار.

الولايات المتحدة تدعي ان الأموال تم إرسالها للوزارات العراقية، وفُقدت هناك. ولكن ليس هناك معاملات بنكية تثبت صحة الادعاء. الأموال موجودة في موقع تحميه القوات الأمريكية في المنطقة الخضراء، ويتم تقديم المطلوب منها حين يُطلب. بدون معاملة بنكية تثبت انتقال المال من هذا لذاك.

وهذه الأموال قد فُقدت بين مايو 2003 – ويونيو 2004. مما يعني ان فقدانها مسئولية الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد يقول البعض ان 9 مليارات دولار مبلغ بسيط، يمكن تعويضه بيسر من النفط العراقي. ولكنه في الواقع يكفي لأعمار الكثير من المدارس والمؤسسات الأساسية للبنى التحتية في المناطق الآمنة نسبياً في البلاد.

وهذا لا يعني أننا نلقي اللوم بأكمله على أمريكا. فمع الأسف، الفساد يستفحل في المؤسسات العراقية ذاتها. مثلاً، اليوم تستطيع في سوق الغزالية ببغداد، وفي سوق البصرة، شراء أجهزة طبية وأدوية حديثة. وهكذا فالمتوقع هو ان بعض المفسدين الفاسدين في وزارة الصحة يبيعون الأدوية في السوق السوداء، بينما تعاني المستشفيات من نقصها.

في وزارة عراقية اليوم، تُصرف الرواتب ل 8026 حارس. ولكن الحرس المتواجدين بالفعل عددهم 6002 فقط. الكثير من أموال هذه الرواتب إذا تذهب لمسئول منتفع. بينما الناس تعاني من البطالة.

كما ان هناك مشروع لتخصيص ممتلكات الدولة. وهذا بحاجة لمتابعة خاصة حتى يعرف الشعب من الذي يشتري ممتلكاته، وبكم؟

من الممكن الادعاء ان : 30 % من أموال إعادة الأعمار على الأقل تضيع بسبب الفساد وسوء الإدارة. ومن المعروف ان الشركات الأمريكية تنال العقود بمليارات الدولارات، وتقدم منها بضعة ملايين لشركات عراقية تقوم بالعمل الفعلي. ويذهب باقي المبالغ في خبر كان.

3-

نختم تحليلنا للفساد في العراق الأمريكي بقصة السيد ديل ستوفل، وهو الذي لاقى جزاء سنمار الذي نسمي هذه المقالة باسمه.

والسيد ديل ستوفل هذا عمل مع شركة امريكية اسمها Wye Oak Tech تعمل في تجارة السلاح. وكلنا سمعنا بأجزاء من قصته: فقد بثت قنوات مثل العربية والجزيرة تصريحات السيد د. علاوي بشأن ضرورة شراء بعض الدبابات المدرعة للجيش العراقي. وكانت شركة السيد ديل ستوفل المسئولة عن عملية الشراء.

وحين فضح السيد ديل ستوفل ما شاب الصفقة من فساد مالي، انتهى الأمر به جثة هامدة في بغداد يوم الثامن من ديسمبر، 2004.

السيد ستوفل ادعى أولا ان مجموعة مستشارين أمريكان تدعى بترايوس petraeus هي التي سمحت بعقد صفقة السلاح، مع ان المفترض هو ان الحكومة العراقية حرة بهذا الشأن، وان القرار يخصها.

السيد ستوفل ادعى ان هؤلاء المستشارين فرضوا عليه استخدام وسيط بينه وبين وزارة الدفاع العراقية. الوسيط لبناني الأصل اسمه ريموند زينة. وكان يسرب الرشوة تلو الأخرى لشخصيات متنفذة في وزارة الدفاع العراقية.

السيد ستوفل كتب في بريد إلكتروني ان : “الطريقة التي تُدار فيها الأمور في بغداد ستضعنا جميعاً في السجن.” وكتب هذه الأقوال في نوفمبر 30، قبل قتله بثمانية ايام.

اشتكى السيد ستوفل لأعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي، وطالب بالا يتم تقديم الأموال بدون رقابة. وطلب من الولايات المتحدة التدخل لإجبار وزارة الدفاع العراقية على إعادة مبالغ الرشى، وقدرها 24 مليون دولار ، من قيمة الصفقة الكلية، وقدرها: 283 مليون دولار.

والتقت جميع الأطراف المعنية في بغداد في ديسمبر 5.

وقبل ان يستعيد السيد ستوفل المال، أطلقت عليه النار فرقة “كتائب الجهاد الإسلامي” . وانتهى به الأمر جثة هامدة.

من الممكن التساؤل: هل قتلت الرجل فرقة متطرفة بالفعل؟ ام مجموعة مرتشية في وزارة عراقية لها مصلحة في إخفاء حقائق الفساد في بلادنا؟

القضية تطرح أسئلة مخيفة بشأن قيام عناصر فاسدة في الدولة بجرائم يتم اتهام المقاومة بارتكابها.

باختصار، موضوع إعادة الأعمار في الزمن الأمريكي يحوي الكثير من المال والفساد والجريمة.

وقصة جزاء سنمار توضح ان الأجنبي سيماطل في موضوع إعادة الأعمار للتحكم في البلاد. الغزو الأمريكي كذلك يفسد المسؤول العراقي بالرشوة.

ولذلك نتمنى من حكومتنا الجديدة بقدر ضرورة اهتمامها بالملف الأمني ان تبذل قصارى جهدها لتصبح أموال النفط والأعمار في أيدي عراقية نزيهة.

وننصحها بإلقاء المستشار الأمريكي المفسد من سقف أعلى مبنى في العاصمة، كما فعل جدنا الملك النعمان مع سنمار. فينطبق عليه قول الشاعر:

فقال اقذفوا العلج من فوق برجه فهذا لعمر الله من أعجب الخطب.

من المصادر:

$9B Goes Missing In Iraq

Huge Sum Disappears Without A Trace

Helen Thomas, Hearst White House columnist