ملاحظة: أبطال قصصي حقيقيين

سارة، مريم وسيف

لطفاً اضغط على النشيد قبل أن تبدأ في القراءة

تم منح هذه القصه وسام التميز

.. الاداره ..



9 thoughts on ““لسوف أعود” قصة من تأليفي

  1. بعدها بأيام وفي غرفة المدرسات جلست أصحّح مجموعة من الكراسات. دخلت سارة وهي تحمل ملفاً لمعلمة اللغة الإنجليزية. وقفت زميلتها مريم عند الباب تنتظرها. تأملت مريم. إنّها تقارب سارة في الطول. عيونها ناعسة و…!!! وعلامات حمراء على خدها الأيسر. يبدو لي أنها كدمات.
    – مريم. من فضلك اقتربي.
    فدخلت والتردد يثنيها. دققت النظر. “نعم، إنها كدمات!” هكذا ردّدت في نفسي.
    – هل أصابكِ مكروه؟
    – لا يا معلمتي!
    – هل سقطتي؟
    وهي تهز رأسها نافيةً، قالت: لا!
    – حسناً ما هذه الكدمات التي على وجهك؟
    – إنها الخادمة!
    سرت رعشة في أوصالي، وسألتها: أتعنين أن الخادمة قد مدت يدها عليكِ؟
    – نعم. لقد صفعتني على وجهي!
    – ولماذا؟
    – اغتاضت منّي اليوم حين رفضت تناول الفطور.
    – بهذه البساطة؟
    ردّت بانكسار: لقد اعتدت على ذلك!
    رن الجرس معلنا انتهاء فترة الاستراحة. استأذنتي في الذهاب إلى صفها وخرجت برفقة سارة.
    ** ** ** **

    – والآن. ما رأيكِ فيما حدث؟!
    – إنه موضوع لا أستطيع أن أتدخل فيه.
    – أنتِ يا عبير من يقول هذا الكلام؟! أين حرصكِ واهتمامكِ بالطالبات؟!
    – موجود لكن هنا بين أسوار المدرسة لا خارجها!
    – ومريم ألا تستحق الاهتمام؟ أليس ما حدث لها جريمة في حقها؟ وممن؟ من الخادمة؟!
    – ماذا يمكنني أن أفعل؟!
    – أقل شيء استدعي والدتها، وأعلميها ما حدث.
    – وإن كانت تعلم؟!
    – فتلك مصيبة! وأيّ مصيبة!!

    ** ** ** **
    بعد اتصالات عديدة جاءت الأم، وليتها لم تأتِ. حين ناقشنا معها موضوع ابنتها رأت أنّنا نهوّل الأمور، ونعطيها أكبر من حجمها!! والخادمة -من وجهة نظرها- التي تعمل لديها منذ ثماني سنوات لم ترتكب خطأ وقد تكون ابنتها المخطِئة!!
    – لكن هل يُعقل أن يصل الأمر إلى الضرب! “هكذا حدثتها بانفعال”
    – ربما لم تكن تقصد.
    – كيف… ومريم أخبرتنا أنها اعتادت على ضرب الخادمة؟!
    – والمطلوب؟
    – انتبهي لابنتك لأنها بحاجة إليكِ خاصة وهي في هذا السن، وأوقفي الخادمة عند حدها.
    – كيف؟
    – استغني عن خدماتها.
    – أستغني عن خدماتها!!! مستحيل!! من سيدبر شؤون منزلي إن ذهبت؟! أنتِ لا تعرفين خادمتي، وقد لا تعلمين أن جميع جاراتي يحسدنني عليها.
    خرجت أم مريم مثلما جاءت! خرجت وقلبي يتفطّر على ابنتها المسكينة، ويشتعل غيضاً منها ومن الخادمة التي خلا قلبهما الرحمة!!
    ** ** ** **
  2. بعد انتهاء الطابور سألتني عبير: أما تزال سارة متأثرة بفقد والدتها؟
    أمسكت يدها وقلت: تعالي معي إلى المكتبة؟
    كانت أمينة المكتبة قد جهزت ركناً خاصاً حمل مجموعةً من الكتب والمجلات والمطويات. كانت كلها عن الأم.

    ببركِ يا منى عمري إلهُ الكون أوصاني
    رضاؤك سرّ توفيقي وحبّكِ ومض إيماني
    وصدق دعائكِ انفرجت به كربي وأحزاني
    أمسكت مجلةً قديمة. فتحت على صفحة أعرفها جيداً وناولتها إيّاها. بدأت تقرأ بصوت مسموع: نتائج مسابقة أجمل رسالة إلى الأم. توقفت وأكملت القراءة بصمت.

    بسم الله الرحمن الرحيم

    أمي الغالية… منذ سنوات وأنا أكتب لكِ رسائل عديدة. كنت كلّما أحس أنّي بحاجة إلى الحديث معكِ أمسك قلمي لأوجّه لكِ ما أعجز عن البوح بِه لمن هم حولي. بودّي لو أطلعكِ على كل ما كتبته، وأبثّكِ بعضاً ممّا في قلبي الصغير.
    أمي العزيزة…
    لا أعرف ماذا أكتب؟! أو ماذا أقول؟! أو من أين أبدأ؟! سأبدأ بالبوح عن أمنتياتي. تمنّيت أن أسألكِ، تمنيت أن أناقشكِ في أمور عدّة. أياماً كثيرة مرّت احتجت فيها إلى نصحك وإرشادكِ. احتجت إلى من يجيب على أسئلة عديدة يضج بها رأسي. أسئلة لم أجد لها إجابة! حيّرتني وما تزال!
    دائماً ما تخالجني هواجس عديدة، منها ما يدوم، ومنها ما ينتهي لحظة ميلاده. متأكدة أنّي سأجد لديك أذناً صاغية، لما أقوله أو أكتبه لكن هيهات هيهات. لقد منحتني ذات يوم كل اهتمامك. منحتني ما كنت أتمناه، وما لم أكن أتمنّاه.
    مرّة شاهدتكِ في المنام تطلبين منّي أن أقول لكِ كل شيء. استغربت من طلبك، لكن تمنيت ساعتها لو أحكي لك كل شيء. آآه لو عرفتي يا أمي ما في جوفي من حكايات ضاق بها صدري. حكايات لا تموت أقصها على نفسي كل يوم لكن ذلك مستحيل.
    أمي … إن الحياة صعبة، أصعب ممّا تصورت، والواقع يجب أن أرضى به حتى لو وقفت عاجزةً أمامه. ثقي بأني كل صباح أتذكرك ويلوح طيفك أمام ناظري حين أرتّب شعري، وحين أنتظر الحافلة، وحين أعود إلى البيت وقت الظهيرة.
    أمي… كنتِ موجودةً معي، والآن رحلتي. أنا في دار وأنتِ في دار أخرى، ولا أعلم إن كُتِبَ لنا أن نلتقي مرةً أخرى.

    من تفتقدك كثيراً
    ابنتك
    سارة

    ملاحظة: هذه الرسالة كتبتها لأمي التي غابت عن عيني لكنها ما تزال تسكن روحي.

    ** ** ** **
  3. لسوف أعود

    توقفت سيارة الأجرة التي كانت تقلني إلى المدرسة. أخرجت من محفظتي عشرة دراهم للسائق. دخلت بسرعة متوجهةً ناحية الحاسوب الذي اعتدنا تسجيل حضورنا عليه. الساعة تشير فيه إلى السابعة وست وأربعين دقيقة. نظرت إليّ المشرفة الإدارية قائلة:
    – توقيعك بعد الخط الأحمر!!
    أجبتها مبتسمة: بإذن الله غداً سيكون أخضر!
    ** ** ** **
    في غرفة المدرسات بدأت أحضّر لحصصي. دخلت علينا المعلمة المناوبة.
    – الطابور يا مدرسات. المديرة نبّهت بالأمس على حضور جميع المعلمات إلى جانب الطالبات.
    خرجت زميلاتي وبقيت وحيدةً في الغرفة. انهمكت في التحضير لكن توقفت عن الكتابة ورفعت رأسي حين ارتفع صوت نشيد في الإذاعة المدرسية.

    لسوف أعود يا أمي أقبّل رأسك الزّاكي(1)

    أبثّك كلّ أشواقي وأرشف عطر يُمناكِ

    كان الصوت يحمل نبرةً حزينة ومؤثرة. هذا الصوت أعرفه. إنه لـِ… لـِ… لـِ… وبينما أعصف أفكاري علّي أتذكر كانت كلمات النشيد تتساقط على مسامعي.

    أمرّغ في ثرى قدميـ ـكِ خدّي حين ألقاكِ

    أروّي التّرب من دمعي سروراً في مُحيّاكِ
    تذكرت! إنها “سارة” الطالبة في الصف التاسع. خرجت من الغرفة. تسارعت خطواتي نحو الطالبات المشاركات في الإذاعة. سألت مقدمة البرنامج التي وقفت تنتظر انتهاء الفقرة عن المعلمة المشرفة على الإذاعة، فأجابت:
    – إنها الآنسة “عبير” الاختصاصية الاجتماعية.
    التفت حولي، وألقيت نظرةً سريعة على جميع الواقفات في الطابور، فلم أجدها. هناك في غرفة أمينات السر وجدتها تصوّر مجموعةً من الأوراق. سلّمت عليها و…
    – عبير. هل أنتِ المشرفة على إذاعة اليوم؟
    – نعم. هل هناك شيء؟
    – النشيدة!
    سكتت، ووصل إلى أسماعنا صوت سارة.

    فكم أسهرتِ من ليلٍ لأرقد ملء أجفاني

    – النشيدة رائعة. أنسيتي أن هذا اليوم يصادف يوم تكريم الأم؟!
    – لا أعني هذا. عبير ألَمْ تجدي غير سارة؟!!
    – إنها أجمل صوت إنشادي مميز في المدرسة وبدون منازع.
    – لكن لديها ظرفها الخاص.
    خرجت الكلمات مني وهي تحمل نبرة غضب مكتومة. هنا تذكرت أن عبير اختصاصية جديدة في المدرسة. كانت سارة تكمل النشيد.

    وكم أظمأت من جوفٍ لترويني بتحناني

    أكملت بهدوء:
    – قبل ست سنوات توفيت والدة سارة في حادث سيارة. كانت في طريقها للمدرسة لتأخذها إلى البيت لكن سيارتها انحرفت عن الطريق، وبسبب إصابتها الشديدة توفيت قبل قدوم سيارة الإسعاف.
    سكنت عينا عبير، وتمتمت بصوتٍ خافت:
    – وسارة؟!
    – سارة جلست تنتظرها في المدرسة برفقة بعض المعلمات اللواتي تأخرن في الذهاب ذلك اليوم، وحين وصل خبر الحادث إلى المعلمة المناوبة اتصلت بوالدها الذي لم يرد، فاضطرت لتوصيلها بسيارتها الخاصة إلى منزل جدها. طوال الطريق كانت سارة تبكي بصمت رغم عدم علمها بما حدث لوالدتها. سألتها المعلمة عن سبب بكائها فانطوت على نفسها ورفضت الحديث.

    ويومَ مرضتُ لا أنسى دموعا منكِ كالمطر

    وعيناً منك ساهرة تخاف علي من خطرٍ
    – وما الذي حدث بعدها؟
    – تغيبت سارة عن المدرسة أسبوعاً كاملاً، ولم يمر عام حتى تزوج والدها، وتركها تعيش في كنف جدها.
    – ومن يعتني بها؟!
    – جدتها وخالاتها.
    وقفت عبير إلى جانبي نستمع إلى سارة وهي تنشد. كانت علامات التأثر باديةً على وجهها. رغِبت في إيقافها لكني أمسكت يدها، وطلبت منها أن تدعها تكمل.

    ويوم وداعنا فجراً وما أقساه من فجرِ

    يحار القول في وصف الـ ـذي لاقيتِ من هجري

    كانت خصلات شعر سارة الناعمة تكاد تقترب من عينيها. حجابها الأسود سقط على كتفيها، والشريط الأزرق الذي رفعت بِه شعرها زادها جمالاً، وصوتها الشجي الهادئ اخترق القلوب، وأرغم كل من وقف ذلك الصباح في الطابور على الصمت حتى همسات الطالبات التي اعتدنا عليها اختفت.

    وقلتِ مقالةً لا زلـ ـتُ مدّكراً بها دهري

    محال أن ترى صدراً أحنَّ عليك من صدري

    ** ** ** **

Comments are closed.