في صبيحة أحد الأيام، تلقى الضابط المناوب اتصالات من إحدى الدوريات أخبرته فيه أنه تم العثور على سيدة ميتة، وأن جثتها ملقاة بين الصخور على الشاطئ، حيث شاهدها أحد رواد البحر الذي أبلغ الدورية عنها.

بدء التحقيق

طلب الضابط من أفراد الدورية الإبقاء على الشخص المُبلِّغ لأخذ المزيد من المعلومات منه وحفظ المكان في حضوره، عندما حضر الضابط أخبره الشخص الذي بلّغ أنه من هواة البحر، وأنه تعوّد منذ فترة على الركض في الصباح الباكر على الشاطئ ليستفيد من اليود الموجود في هواء البحر، وأنه لاحظ اليوم وجود شيء غريب بين الصخور، وعندما ذهب لاستطلاع الأمر، شاهد المرأة على الوضع الذي هي عليه، حيث قام بإبلاغ الدورية.

شكر الضابط الرجل وطلب منه إبقاء رقم هاتفه النقال للاتصال به عند الضرورة.

أمر الضابط بوضع تصور مبدئي للجريمة، حيث تبين أن السيدة متيبسة الجسد، وأن موتها ناجم عن شيء داخلي، حيث لا توجد آثار لإطلاق نار أو ضربة بسكين، كما أن عينيها غير جاحظتين، ما يعني أنها لم تمّت خنقاً، كما أن بشرة جسمها غير زرقاء، ما يفيد أنها لم تمت بالسم.

لكن التصور المبدئي للجريمة رجّح أنها ماتت بشدة تمزق داخلي، أمر الضباط بسرعة نقل الجثة إلى المختبر الجنائي والإسراع في كتابة التقرير، حيث جاء فيه أن السيدة تبلغ من العمر 27 عاماً، بيضاء البشرة، زرقاء العينين، طولها يبلغ 182 سنتيمتراً، ووزنها 62 كيلوغراماً.

كما تطرق التقرير إلى نوع حمضها النووي وفصيلة دمها، إضافة إلى أن سبب موتها يعود إلى استنشاقها لغاز «بمََُُّّوْيَم»، حيث سبب استنشاقها له تدميراً كاملاً لجهازها التنفسي، إضافة إلى جعل جسمها يبدو متيبساً، لأنه عند استنشاقها للغاز، انخفضت درجة حرارة جسمها لتصل إلى 15 درجة مئوية.

كما جاء في التقرير أيضاً أن جسمها عند الكتفين يحمل كدمات قوية جعلت الدماء تتجمع تحت الجلد، وتحت أحد أظافرها توجد قطعة جلد صغيرة جداً على ما يبدو أنها لأحد الأشخاص الذين اشتركوا في قتلها.

أمر الضابط بالتحفظ على قطعة الجلد هذه، وأخذ الحمض النووي الخاص بها، لأنها ستوصل الشرطة إلى القاتل بعد أن تبيّن أن الحمض النووي لتلك القطعة يختلف عن ذلك الخاص بالقتيلة.

عاد الضابط إلى مكتبه لا يدري ماذا يعمل، فالقتيلة لا تحمل أي أوراق تدل على شخصيتها، كما أنها لا تحمل هاتفاً نقالاً أو أي شيء يمكن أن يرشده إلى القتلة، والأهم من هذا كله أنه ولأول مرة يتعرف على غاز «بمََُُّّوْيَم»، وأن هذا الغاز يسبب دماراً كاملاً لجهاز التنفس، خاصة الرئتين.

حاول الضابط أن يجمع المزيد من المعلومات عن الغاز من خلال «الإنترنت» لكنه اكتشف أن المعلومات غير متوفرة.

خلال هذه الفترة كثّفت الأجهزة الأمنية بحثها عن القاتل أو القتلة، وكان الأمل كله معقوداً في الحصول على شخص يحمل نفس صفات الحمض النووي الذي تحمله قطعة الجلد الصغيرة التي وجدت تحت ظفر القتيلة.

السفر إلى الخارج

كتب الضابط تقريراً إلى المدير أخبره أن أعضاء الجهاز لا يعرفون شيئاً عن الغاز الذي قُتلت به السيدة، وأنه يقترح سفر ثلاثة من الأعضاء للخارج، إلى إحدى الدول الصديقة والمتطورة علمياً للاستفادة من خبراتها في مجال مكافحة الجريمة، ومعرفة المزيد من المعلومات عن الغاز.

لم تمض ثمان وأربعين ساعة، حتى كان الوفد في طريقه إلى الدولة الصديقة، وكان المطلوب منه الحصول على كل المعلومات المتعلقة بالغاز، وما هي العصابة التي تستخدمه، وكيف يتم استخدامه… إلخ.

من جانبه حمل الوفد معه إلى الدولة الصديقة تقريراً كاملاً عن عملية القتل وعن القتيلة وعن الأثر الذي تركه الغاز على أعضاء القتيلة الداخلية وكيفية تدميرها خاصة الرئتين.

خلال وجوده في تلك الدولة حصل الوفد على معلومات قيمة وكثيرة عن الغاز حيث تبين بأن عصابة واحدة فقط هي التي تستخدمه، بل انها متخصصة في استخدامه، فقد قتلت خمسة أشخاص في تلك الدولة وحدها عن طريق إجبارهم على استنشاق الغاز المذكور.

تم الاتصال بالأجهزة الأمنية لدولة صديقة أخرى حيث أشارت المعلومات التي وردت من هناك إلى أن القتل عن طريق غاز «بمََُّ شوْيَم» هي طريقة حديثة جداً ولم يسبق لأي عصابة أن استخدمتها إلا هذه العصابة التي ظهرت على مسرح الجريمة حديثاً بعد انهيار منظومتها، فالعصابة هذه لا تلجأ إلى الطرق التقليدية بل إنها في تطور مستمر من حيث أدوات الجريمة أو المادة التي تتاجر بها.

فهي التي صنعت حبوب المخدرات من نوع «ستميوليشن» وأغرقت الأسواق العالمية بها وهي التي بدأت في تكوين مزارع للأطفال بعد خطفهم وتسمينهم ثم بيعهم كقطع غيار، وهي أول عصابة تستخدم طائرات مقاتلة من أجل نقل الهيروين والميرغوانا من مكان زراعتهما إلى مصانعها في غابات الدول الواقعة ضمن جمهوريات الموز، كما أنها تمتلك أكبر أرصدة في العالم إذ تقدر أرصدتها المنقولة بنحو «300» مليار دولار فيما تقدر أرصدتها غير المنقولة «عقارات وشركات وأراض ومزارع وفنادق…» بنحو «800» مليار دولار، أما عدد العلماء الذين يعملون معها فيصل عددهم لأكثر من «180» عالماً وطبيباً متخصصين في مجالات الفيزياء والكيمياء والأحياء والأعصاب والطب البشري بكافة أنواعه.

شكلت هذه المعلومات صدمة للجهاز الذي نعمل فيه فكيف سيتم التعامل مع عصابة لديها إمكانيات أكبر بكثير من إمكانيات عشرات الدول، لكن الأوامر التي صدرت هي الاستمرار في البحث عن الجناة ليأخذوا عقابهم مهما كانت قوتهم وسطوتهم.

تم تعميم الحمض النووي لقطعة الجلد التي وجدت تحت أظفر القتيلة على عدد من الدول على أمل أن تجد الشخص المطلوب.

انتظار طويل

بعد انتظار طال أشهراً بدا واضحاً أن الشخص المطلوب لم يتم القبض عليه في أية دولة حتى الانتربول «لم يقدم عنه شيئاً فقد يكون مختفياً في مكان ما، لكن المهم في الأمر أن القضية بقيت مفتوحة، وكان المسؤولون الذين يتابعون القضية حريصين على أن يعرفوا لماذا تمت عملية القتل ودوافعها والأشخاص الذين يقفون وراءها.

بعد مرور تسعة أشهر جاءت معلومة تفيد بأن الشخص الذي نبحث عنه، تم القبض عليه في دولة في جنوب شرق آسيا في عملية تهريب حبوب «ستميوليشن» وأن التحقيقات جارية معه ومع اثنين من رفاقه، وعلى الفور تم تشكيل وفد للذهاب إلى هناك لمتابعة التحقيق ولمعرفة المزيد عن الشخص وهل هو الشخص المطلوب فعلاً أم لا؟

خلال الرحلة التي استمرت نحو «8» ساعات كان الوجوم يخيم على الوفد، فقد كان الضابط الذي كان يتابع القضية هو رئيس الوفد وكان يحمل في حقيبة سوداء أنيقة كل المعلومات المتعلقة بقضية قتل السيدة إضافة إلى الحمض النووي الخاص بقطعة الجلد.

سألت الضابط عن سبب وجومه وقلت له إن المسألة لا تستحق كل هذا الوجوم.

فالدولة التي نحن ذاهبون إليها دولة صديقة وسبق أن تعاونا معها في العديد من القضايا الأمنية.

وقلت له أيضاً ليس المهم أن يحاكم القاتل عندنا أو في دولة صديقة المهم أن يأخذ عقابه. لكن الضابط لم ينبس ببنت شفة، فقلت في نفسي لعله، لم يسمعني جيداً، فكررت عليه الكلام ذاته.

وهنا قال أنا لا أريد الرجل كي أحاكمه على عملية القتل لأنني أعرف ان ثبتت عليه التهمة من خلال الحمض النووي فإن الدولة التي نحن ذاهبون إليها ستحاكمه وستصدر عليه أحكاماً يستحقها لكنني أريد أكثر من ذلك، أريد أن أعود به فأنا بحاجة إليه.

قلت له أمرك غريب كيف تحتاج إلى مجرم وأنا أعرف كم تكره هذه المجموعة من البشر وكم تبذل من جهد وتعب من أجل القضاء عليهم.

ضحك الضابط وقال لو أتيحت لي فرصة العودة به فلن أقسو عليه في المحاكمة كما تتصور بل سأسعى لدى المحكمة لتخفيف الحكم عنه ولن أضعه في السجن بل سيكون في غرفة خاصة تابعة للسجن وسيتناول أفضل الطعام والشراب وسأوفر له كمبيوتر وشبكة «انترنت» وغيرها، وإن كان له زوجة وأولاد سأحاول جهدي أن أحضرهم كي يرونه وسأجعل لهم راتباً شهرياً حتى لو اضطريت لأن أدفع ذلك من مالي الخاص.

قلت له هل سوء الأحوال الجوية ورداءة الطقس وارتفاع الطائرة أكثر من «35» ألف قدم أثر عليك وجعلك تهذي، لم يرد الضابط بل وضع يديه على عينيه وقال أريد أن أنام قليلاً لأن عملاً كبيراً ينتظرنا.

بعد أن وصلنا إلى الدولة الصديقة مباشرة انتقلنا إلى حيث الرجل ورفاقه واطلعنا على محضر التحقيق ثم طلبنا أن نفحص لعابهم لنتعرف على الحمض النووي لكل منهم، حيث تبين أن أحدهم ينطبق عليه الحمض النووي الذي وجد في قطعة الجلد الصغيرة.

كان تركيز الضابط على هذا الرجل الذي أبدى مقاومة في التحقيق حيث أنكر أن له أية علاقة بقتل السيدة أو بالمخدرات وقال بانه بريء وان الشرطة المحلية لتلك الدولة قبضت عليه بدون سبب لمجرد الاشتباه.

أثناء التحقيق أبدى الضابط ليونة لا توصف وتعاطفاً كبيراً مع الرجل ما أغضب الفريق كله لذا أخذت الضابط على جنب وقلت له نحن مستاؤون مما تفعل ومن الطريقة التي تتبعها في سير التحقيق لكن الضابط رد عليّ بعصبية قائلاً احتفظ برأيك أنت وهم لأنفسكم، فإما أن تثقوا بي وتبقوا معي أو تعودوا متى شئتم.

عندما رجعنا إلى الفندق دار بيننا نقاش حاد حول الطريقة التي يتم فيها التحقيق مع المتهم، فقلت للضابط إما أن تغير أسلوبك في التحقيق وإلا سأكتب فيك تقريراً عندما نعود.

هنا ثار الضابط وقال بعصبية واضحة: هل تشكّون في ذمتي؟ فقال أحد الزملاء: نعم، لقد بدأنا نشك في ذمتك، فأنت تلاطف القاتل وكأنه صديق وليس قاتلاً وأنت تعرف جيداً ماذا فعل؟ فقد تسبب لنا في متاعب كثيرة وقتل سيدة على أرضنا.

قال الضابط بعد قليل سترون ما يغضبكم أكثر، لم يمر وقت طويل حتى انتقلت إلى السجن حيث الرجل المتهم، وكان من المفروض أن نستأنف استجواب المتهم خاصة أن التهمة ثابتة عليه بعد أن تطابق حمضه النووي مع الحمض النووي لقطعة الجلد التي وُجدت تحت أظافر القتيلة، لكن ما حدث غير ذلك فقد طلب الضابط من الحرس في الدولة الصديقة أن يفكوا قيود الرجل حيث أخذه الضابط إلى غرفة مجاورة وجلسا معاً يتناولان المشاوي والمشروبات الغازية، وبعد ذلك أخرج الضابط من جيبه رزمة من الدولارات ووضعها في يد المتهم، ثم أخرج من جيبه الثاني علبة سجائر فاخرة مع ولاعة وقدمها له أيضاً، ما أصابنا بالذهول.

رغم أننا نعرف الضابط جيداً إلا أن تصرفاته مع القاتل كانت غريبة حتى أن أحدنا اتهمه بأنه يتعاون مع هذه العصابة، بعد أربعة أيام من وجودنا أخبرنا الضابط بأننا سنعود وأن القاتل سيكون معنا وطلب الضابط منا أن نتعامل معه وكأنه شخص عادي لأنه سيركب الطائرة معنا بدون أية تحفظات وأنه لن يكون مقيد اليدين.

في طريق العودة جلس الضابط بجانب القاتل وكانا يتبادلان الضحكات وكأنهما صديقان وعند وصولنا دعانا الضابط إلى تناول طعام العشاء في بيته، وكان بالطبع معنا المتهم القاتل، حيث كان يعامله الضابط بأدب جمّ.

التحقيق من جديد

صباح اليوم التالي ذهبنا إلى السجن حيث كان القاتل ومعه الضابط وبدأنا التحقيق مع القاتل حيث قال إنه هو واثنان من رفاقه اشتركوا في قتل السيدة والسبب أن زوجها سرق 15 قطعة من الألماس تُقدّر قيمتها بنحو 6 ملايين دولار، وأن العصابة تشك في أنها تعرف أين أخفى زوجها الألماس قبل أن يُقتل على يد أفراد العصابة.

وأضاف، حاولنا معها كل الطرق حتى تعترف أين أخفى زوجها الألماس لكنها كانت تقول إنها لا تعرف عن الأمر شيئاً، لذا أصدرت الأوامر بقتلها، فقد كانت لدينا قناعة بأنها تعرف وإلا لماذا كانت تهرب منا، فقد لاحقناها في أكثر من عشرين دولة سافرت إليها خلال سنتين.

قال الضابط ربما كانت خائفة على حياتها لذا اضطرت لأن تسافر حتى لا تلاحقونها وتقتلونها، لكن الرجل لم يتكلم واكتفى بهز رأسه.

نظر الضابط إليه وقال: هل تريد سيجارة، وفعلاً قدم له الضابط سيجارة وكأساً مملوءة بالقهوة المحلاة.

قال الضابط: تعرف أنني أعاملك كصديق وليس كمجرم أو قاتل، وسوف تستمر معاملتي لك بهذه الطريقة وربما أفضل، ولكن… قال الرجل: أعرف ماذا تريد فأنا وأنت كالقط والفأر لعبة لا تنتهي إلا بموت أحدنا.

قال الضابط ولماذا تتكلم عن الموت ما دمنا نستطيع أن نصنع الحياة، فأنت أخطأت وقتلت وأنا أعرف أن الإنسان لا يُخلق قاتلاً ولكن الظروف قد تجعله كذلك، بينما هو في داخله إنسان جيد.

لم ينتظر الضابط ردة فعل الرجل بل قال أنا أعرف أنك تتمنى أن تشاهد ابنتك وابنك وزوجتك، وأنا أعرف أنك على استعداد لأن تفعل المستحيل من أجل حمايتهم من أفراد العصابة ومن أذى وشرور الآخرين، فقد عرفت أن لديك عائلة رائعة.

قال الرجل العصابة التي أعمل معها سوف تحميهم، فرد عليه الضابط لن يستطيع أحد أن يحمي أسرتك إلا أنت نفسك، وهنا قال الرجل وكيف لي أن أحميهم وأنا قد أموت في أي وقت، فأنا قاتل ومهرّب مخدرات ومطلوب لأكثر من دولة، وأنت تحقق الآن معي.

رد الضابط: الأمر ليس بهذه الصعوبة، فإن أردت أن يكونوا في حمايتي فأنا أستطيع أن أعمل الكثير، فقد أحضرتك من دولة بعيدة وها أنت تجلس معي واستطعت أن أثبت عليك تهمة القتل بعد عدة أشهر.

قال الرجل لا أستطيع أن أطلعك على ما تريد فأنا لا أثق بالشرطة أبداً.

هنا أظهر الضابط حزماً واضحاً وقال: ليس أمامك خيار فإما أن أحكم عليك بالشقاء والعذاب والسجن المؤبد أو الإعدام وإلا أن نكون أصدقاء وتأخذ حكماً مخففاً وتكون أسرتك إلى جانبك وتزورك متى تريد.

قال الرجل لن أقول أي شيء قبل أن أرى أسرتي، ضحك الضابط وقال لك ذلك، وخلال أسبوع كان الرجل وأسرته يتناولون الطعام في بيت الضابط، بعد ذلك أخذ الضابط الرجل إلى غرفة مغلقة ومجهزة بكل أدوات التنصت وأحدث الأجهزة الخاصة بالتصوير والتسجيل وطلب الضابط من الرجل أن يتكلم عن كيفية تصنيع الغاز القاتل، وعن الخطوات التالية التي ستقوم بها العصابة وعن الأجهزة التي تمتلكها لتصنيع حبوب «الاستميوليشن» وأسماء العلماء والأطباء الذين يعملون مع العصابة.

أخذ الرجل نفساً عميقاً من السيجار الكوبي الذي كان أمامه ثم أخذ رشفة من القهوة وقال….