التنمية الإقتصادية العربية……دبي أنموذجاً

لا شك أن الدافع الرئيسي لكل الحكومات والتي من أجله ظهرت منذ فجر التاريخ هو تحقيق الصالح العام للجماعة وقد وصف أحد الفلاسفة الحكومة الصالحة بأنها الحكومة التي تحقق أقصى درجات الخير لأكبر عدد من المواطنين ومن أجل تحقيق هذا الهدف كانت البشرية ولا تزال تحاول إيجاد أفضل صيغ للحكم فعرفت بذلك أنظمة مختلفة للحكم وصور متعدد للحكومات ، ولم تكن الأمم على مر التاريخ على نفس درجة النجاح في تحقيق هذا الرجاءإلى أن وصلت البشرية في وقتنا الراهن إلى قناعة إن أفضل هذه الصيغ وأكثرها تقدمية هي نظام الحكم الليبرالى الديمقراطي , ولكن بالرغم من تحفظي على هذا الطرح الذي لا يتسع المقام للخوض فيه فإنه يمكن القول أن أقصي درجات الخير هذه تتمثل في توفير الحياة الكريمة للمواطنين من خلال الرخاء الإقتصادي المادي الذي يمثل قطب الرحى لأي تنمية شاملة بمختلف عناصرها وصورها من نهضة ثقافية وسلام إجتماعي وإستقرار سياسي وأمني.

قصــة التنـمية الإقتصــادية الــعربيـة ، كيـف تصــنع لاشــئ مــن كــــل شــــئ؟!!

وبالنظر إلى وضع الدول العربية والإسلامية من هذه الزاوية نجد – للأسف الشديد- صورة قاتمة ومحزنه فكل الحكومات العربية–ربما بإستثناء الحكومات الخليجية – بمختلف مشاربها وتوجهاتها والإمكانيات التي تمتلكها قد فشلت في تحقيق أدنى درجات الرخاء لمواطنيها ، ولا نبالغ أن قلنا أن حال التنمية في الوطن العربي والمواطن العربي عموماً كان أفضل حالا ًفي بعض الدول العربية في زمن الإستعمار منه اليوم فدولة مثل مصر التي كانت تتقدم على دولة ككوريا قبل سبعين سنة تعتبر اليوم توفير رغيف الخبز لمواطنيها تحد كبير وباكستان التي كانت تشكل الجزء الغني من الهند قبل الإنفصال أصبحت اليوم تستجدي المساعدات الإقتصادية من العالم كي لا ينهار إقتصادها في حين أن الهند اليوم تستعد لأن تكون من اللاعبين الكبار في الإقتصاد العالمي خاصة بعد الأزمة الحالية التي غيرت المشهد الإقتصادي العالمي
ولكن وفي وسط هذا المشهد القاتم تبدو تجربة التنمية في دبي نموذج بارز لطالما روج له رجال الإقتصاد والتجارة ورجال الإعلام في المغرب والمشرق على حد سواء ، حيث تمكنت هذه الإمارة الصغيرة من خلق مكانه لها على خارطة العالم كمركز مالي وخدمي بفضل الإستثمار في البنى التحتية والإنفتاح على العالم ولكن ما هي درجة النجاح التي حققتها دبي وما هي التكلفة التي دفعتها دبي وهل حقا ً تمكنت دبي من تحقيق ما عجز عنه الاَخرون في الشرق الأوسط ؟ أم أنها قامت بما لم يرد أن يقوم به الاَخرون وأنها تحملت تكلفة كبيرة لم يرد الاَخرون تحملها خاصة وأن الأزمة الإقتصادية كشفت الكثير من العورات في تجربة دبي وأفرزت الكثير من المشكلات مما حدى بالكثير من المراقبين والكتاب الغربيين – ممن كانوا يشيدون بهذه التجربة حتى وقت قريب- من توجيه الكثير من النقد الذي كان متحاملاً وغير موضوعي أو مهني في مجمله وغير مبني على أسس تحليلية وإستقرائية يدعمها الدليل العلمي حاله في ذلك حال الإشادات السابقة التي صدرت منهم ، والحقيقة هي أن الواقع منزلة بين منزلتين إذ لم تكن تجربة دبي – كما وصفت في البداية- بأنها تجربة خارقة ولم تكن تجربة فاشلة كما نُعتت بعد الأزمة ولم يكن الإعلام وخاصة الغربي منصفاً لدبي عندما طبل لها في البداية كما لم يكن منصفاً الاَن عندما قلب لها ظهر المجن وقال في عوراتها ما لم يقله مالك في الخمر.
هذه المقالة هي محاولة تقييمية لدبي تسبر أغوار تجربتها التنموية وتحاول أن تمييز الخبيث من الطيب فيها بعيداً عن أي محاملة أو مجاملة و دون قدح ولا مدح مُتسلحين بما نعرفه من أساليب البحث العلمي الرصين وما نحمله من حب لهذه الأرض ومن رغبة لأن تكون تجربة دبي نموذج حقيقي لما هو ممكن في الوطن العربي ولما يمكن أن ينجزه الأنسان العربي حاكماً أو محكوماً عاملاً أو تاجرا .ً

· التنــــمــــية الإقتصــــــاديــــة لمــــــــاذا؟
ينبغي أن نعي في البداية أن التنمية الإقتصادية التي تسعى لها جميع المجتمعات سعياً حثيثاً هي ليست هدف بحد ذاتها بل هي وسيلة لغاية والغاية هنا هي الرخاء والنهوض والتقدم بمفهومها الواسع ، إذ أن الوضع الإقتصادي المتين لأي دولة أو أمة يُعزز من إستقرارها الداخلي ويدعم مكانتها وحضورها الإقليمي والدولي كما يُمكنها من تحقيق أهدافها القومية على الصعيدين الداخلي والخارجي ، حيث لايمكن تصور أن تتمتع أي أمة بالوئام الإجتماعي دون تحقيق الحد الأدنى من متطلبات شعبها من وظائف وخدمات وغيرها خاصة في الأمم التي تتميز بالتنوع العرقي والديني ، كما لا يتصور أن تتمكن أمة تعاني من الأزمات الإقتصادية من الحفاظ على هويتها وثقافتها في عالم اليوم الذي تداخلت فيه الثقافات وكذلك لا يمكن لدولة من الحفاظ على أمنها الوطني- بشقيه الداخلي والخارجي- إذا كانت تعاني من الفقر والتخلف وتدني مستوى التنمية ، هذا بالإضافة إلى دور التنمية الإقتصادية في أي دولة في دعم الإستقرار السياسي الداخلي ودعم موقفها ودورها الإقليمي والدولي ، ولنا في الدول العربية مثال على أثر التنمية والرخاء الإقتصادي – أو بتعبير أدق – تأثير غياب التنمية الإقتصادية على الأوضاع السياسية والإجتماعية والثقافية والأمنية لها ، فعلى المستوى السياسي فلا يكاد يجادل أحد في أن الأوضاع السياسية في الكثير من الدول العربية أبعد ما تكون عن الإستقرار سواءاً في اليمن أو في مصر أو في المغرب أو تونس أو السودان ، وأما عن المشهد الثقافي فحدث ولا حرج فغياب الهوية الإسلامية العربية وتراجع اللغة العربية في هذا المشهد يُشكل دليل صارخ على تأثير الفقر والبطالة على الثقافة والهوية العربية في الكثير من الدول العربية ، وأما عن الأمن القومي العربي – إن كان لازال يوجد ما يسمى الإمن القومي العربي – فهو في أحسن الأحوال مُخترق إبتداءاً بالصراع العربي الإسرائيلي مروراً بإحتلال العراق ودخوله في نفق مظلم وإنتهاءاً بتدويل الأزمات في الصومال ، دارفور ، والصحراء الغربية بسبب عجز الدول العربية عن حلها داخل البيت العربي.

· التـــــنمية الإقتــــــصادية لمـــــــــن وبـــــــــمن؟
في علم إقتصاد التنيمة توجد الكثير من النظريات التي تتباين في شرحها لعملية التنيمة الإقتصادية ، ولكن بالرغم من هذا التباين تكاد تكون هذه النظريات ومؤسسيها مُتفقين على حقيقة واحدة وهي أن التنمية الإقتصادية تبدأ بالإنسان وتنتهي إليه ، بمعنى أن التنمية يجب أن تكون مبنية على إستغلال الطاقات والملكات التي يملكها المواطنين لتحقيق الرفاهية لهم وهو ما يعني أن التنمية الحقيقية هي تلك التي تنصب على تنمية الفرد وقدراته عن طريق التعليم والتدريب والتي تكون مُحصلة إطلاق هذه القدرات والإمكانيات وهي في النهاية التي تكون لخدمة الأفراد المُشاركين فيها والناتجة عن جهدهم ، فلا معني للتنمية في أي أمة إن لم تتم بسواعد أبناءها ومن أجلهم ، فأي تنمية تتم بسواعد أجنبية وأي تنمية لا يستفيد منها أبناءها جميعاً وليس فئة محدودة هي تنمية مُصطنعة لا طائل منها وكما يقال النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجرة.
وبالنظر لتجربة دبي التنموية يمكننا أن نجد أنه بالرغم من معدلات النمو الكبير والنهضة العمرانية والخدمية التي شهدتها دبي فإن المساهمة الوطنية – إن وجدت – كانت للأسف محدودة بسبب طغيان الكادر الأجنبي وذلك مرده إلى ثلاثة عوامل أولها القصور الشديد في تأهيل الكوادر البشرية الوطنية والمُخرجات الهزيلة لمؤسسات التعليم والتدريب الوطنية وثانيها أن عملية التنمية ركزت على تسريع وتيرة النمو دون مُراعاة أن تواكب هذه الوتيرة عملية التنمية البشرية مما شجع الشركات الوطنية قبل الأجنبية الإستعانة بالكوادر الأجنبة لسد النقص في الكفاءات البشرية المؤهلة وثالثهما القصور الكبير في التشريعات الخاصة بسوق العمل وغياب الحماية الحقيقية للكوادر البشرية الوطنية مما خلق وضع غريب وفريد وهو أن العمالة الوطنية تتنافس في سوق العمل المحلية مع عمالة العالم التي تتفوق عليها إما في التأهيل والخبرة وإما في التكلفة وهو ما تشي به فشل كل محاولات وبرامج التوطين في جميع القطاعات تقريباً ويكفي أن نعرف أن مُساهمة العمالة الوطنية في القطاع الخاص في الدولة لا يتجاوز الـ 5% في أحسن الأحوال ، ونتيجة لهذا الوضع الفريد كانت حصة العمالة الوطنية من عملية التنمية والنمو الإقتصادي – الذي كان ولا يزال مصدر فخر الكثير من المسؤولين الحكوميين- في صورة إرتفاع مستوى المعيشة والدخل الفردي محدود جداً ويكفي أن نعرف أن الطبقة الوسطى التي تكونت في السنوات الأخيرة – والتي تُعتبر المُحرك الحقيقي للنمو الإقتصادي والمُستفيد الأول منه- تتكون في معظمها من العمالة الأجنبية الغربية التي كانت المستفيد الأول والأخير من تجربة دبي التنموية ، فهم يحصلون على أعلى الأجور ويسكنون في أفضل الأماكن ويرسلون أبنائهم إلى أفضل المدارس كما أن صوتهم أعلى من غيرهم بمافيهم المواطنين وثقافتهم هي المهينة بالرغم من كونها دخيلة وغريبة وغير مقبولة ومُتناقضة مع الثقافة العربية والإسلامية التي هي ثقافة البلد وأهلها ، وفي المقابل لا تزال الكوادر الوطنية تعتمد على التعليم الحكومي رغم مستواه المتدني وعلى الوظيفة الحكومية رغم عائدها المنخفض وعلى الإسكان الحكومي رغم صعوبة الحصول عليه ، وهو ما أفرز واقع إجتماعي خطير وهو أن المجتمع الإماراتي يتكون من ثلاث طبقات طبقة غنية تتكون من أثرياء المواطنين وما يسمى بالمستثمرين الأجانب وهم في مُعظمهم من القارة الهندية ومن السياسيين الهاربين من بلادهم بأموال شعوبهم وأصحاب النشاطات والثروات المشبوهه وطبقة وسطى تتكون في مجملها من العمالة الأجنبية الماهره وما يسمى “الخبراء الأجانب” من الغربيين إضافة إلى نسبه محدودة من المواطنين والطبقة الفقيرة ( الفقر هنا بمعايير دولة الإمارات بالنظر إلى معدل دخل الفرد الذي تعتبر من الأعلى على مستوى العالم) وهى تتكون من نسبة من المواطنين وغالبية العمالة الغير ماهرة التي تشكل السواد الأعظم من العمالة الوافدة .

· النــــــــاتج القــــومي الإجــــمالي والـــناتــــــج المــــحلي الإجـــــــمالي
لإيضاح الفكرة المُراد إيضاحها في هذه الفقرة يجب في البداية تحديد الفرق بين المقصود بالناتج القومي الإجمالي والناتج المحلي الإجمالى ، فمن ناحية يعني الناتج القومي الإجمالي حجم الإنتاج من السلع والخدمات من قبل مواطنين دولة معينة في فترة زمنية ما (حتى وإن كان هذا الإنتاج تم خارج هذه الدولة). في حين أن الناتج المحلي الإجمالي يعني حجم الإنتاج من السلع والخدمات في دولة معينة في فترة ما (حتى وإن كان هذا الإنتاج تم بإستثمارات أو عمالة أجنبية) والفرق هو أن إنتاج مصنع في الإمارات بإستثمارات وعمالة هندية مثلاً رغم أنه يدخل في حساب الناتج المحلي الإماراتي إلا أنه يمكن كذلك أن يدخل في الناتج القومي الهندي لإن الإستثمار ومكون العمل سوف يتم تحويله في المحصلة إلى الإقتصاد الهندي في شكل تحويلات للأجور والعوائد ، وقد باتت معظم الإحصائيات الإقتصادية تستخدم الناتج المحلي الإجمالي لأنه يعبر بصورة أفضل عن حالة النشاط الإقتصادي في بلد ما ، بغض النظر عن جنسية من يقومون بذلك النشاط مع العلم أن الناتج القومي الإجمالي هو ما يبقى في النهاية بأيدي مواطني ذلك البلد لينفقوه ، ورغم عدم وجود إحصائيات دقيقة فإني لا أشك أن نسبة كبيرة من الناتج المحلي لا تشكل جزء من الإقتصاد الوطني بسبب كون أن نسبة كبيرة من الإستثمارات في الشركات المتوسطة والصغيرة مملوكة لأجانب – بالرغم من القانون الذي يتطلب أن تكون نسبة رأس المال الوطني في الشركات 51 % بحد أدنى- وذلك لعدم الإلتزام بهذا القانون كما أن نسبة العاملين في هذه الشركات من الأجانب تقترب من الـ 100% هذا بالإضافة لفتح الباب للأجانب للتملك في الشركات المساهمة العامة وكذلك العقار هذا عدى عن الإستثمارات الأجنبية المباشرة بموجب قانون الإستثمار الأجنبي وقانون المناطق الحرة ، وهذا يعني أن نسبة كبيرة من الإقتصاد الوطني ليست وطنية بالفعل وأن حجم الإقتصاد الوطني لا يعكس بصورة دقيقة الوضع الحقيقي للإقتصاد ، كما تعني أن الإقتصاد الوطني يعاني من نزيف مستمر بسبب تحويلات العمالة والمستثمرين الأجانب لوطنهم الأم خاصة وأن الحكومة لا تفرض أي شكل من الضرائب المباشرة أو غير المباشرة على مداخيل الأجانب في الدولة وهو ما يعني أن النمو في الإقتصاد الوطني هو في الحقيقة نمو مداخيل الدول التي ينتمي لها المستثمرين والعاملين الأجانب في الدولة وليس نمو للثروة الوطنية .
· الإســــــتثمارات الأجنــــــــبية والمــــــــناطق الـــــــحرة لمـــــــاذا؟
غالباً ما تركن الدول التي تعاني من فائض في العمالة الوطنية أو تلك التي تريد إنشاء قاعدة صناعية أو تطوير صناعاتها المحلية عن طريق نقل التكنولوجيا أو تلك التي تمتلك موارد طبيعية مُعطلة بسبب نقص الإستثمارات إلى إستحداث تشريعات تهدف إلى إستقطاب وتشجيع الإستثمارات الأجنبية لتوفير فرص عمل لمعالجة مشكلة البطالة أو دعم وتطوير صناعاتها المحلية أو إستغلال الموارد الطبيعية المعطلة وذلك من خلال منحها معاملة تفضيلية مثل الإعفاءات الضريبية وحرية التحويلات المالية وغالباُ ما يتم ذلك من خلال قوانين الإستثمار الأجنبي أو المناطق الصناعية والخدمية الحرة ، وقد قامت دبي في سبيل تنويع مصادر دخلها بإنشاء العديد من المناطق الحره الصناعية والخدمية مثل منطقة جبل علي الصناعية ومدينه دبي للإنترنت ومدينة دبي للإعلام وواحة دبي للسليكون ومركز دبي المالي العالمي وغيرها من المناطق ، وبالنظر في دور هذه المناطق في التنمية الإقتصادية الحقيقية في دبي نجد أن نسبة المكون الوطني –من عمالة ومواد أولية- في مختلف الصناعات المقامة في هذه المناطق منخفض جداً كما أن المكون التقني في هذه الصناعات يكاد يكون معدوماً إذ أن هذه الصناعات في معظمها هي صناعات تقليدية ذات إستغلال مُكثف للأيدي العاملة غير الماهرة ، وقد إنتبهت السلطات المحلية إلى هذه الحقيقة فقررت إقامة واحة دبي للسليكون لتكون مركز لبحوث التقنية العالية ولكن يبقى نجاح هذه التجربة محل نظر وذلك مرده أن تجربة مدينة دبي للإنترنت قد فشلت في تحويل دبي – حتى الآن على الأقل- إلى مركز إقليمي لصناعة البرمجيات شبيه ببانجلور في الهند .
وقد تحملت الحكومة في سبيل إقامة هذه المناطق الصناعية تكلفة كبيرة إقتصادية وغير إقتصادية مباشرة وغير مباشرة ، منها الإعفاءات الضريبية وأسعار الطاقة التفضيلية وكذلك إقامة البنى التحتية الصناعية المتطورة والمكلفة والتي تستفيد منها هذه الصناعات بصورة كبيرة إضافةً إلى الإستثمار في البنى التحتية العامة من طرق ومجاري وكهرباء يستفيد في معظمها أصحاب هذه الصناعات والعاملين فيها هذا عدى عن التكلفة البيئية والديموغرافية لمثل هذه الصناعات عالية التكلفة ومنخفضة العائد من وجهة نظر الإقتصاد الوطني.
· المـُـــــغامرة العــــــقاريــــــة والإقــــــــــتراض…إلـــــــى أيـــــــــن؟
المُتابع لتجربة دبي كنموذج للتنمية الإقتصادية يستطيع أن يستشف أن دبي قدمت نموذجين مُختلفين: الأول هو النموذج الذي كان متبعاً فيما قبل عام 2003 والذي كان يقوم على أساس تنويع مصادر الدخل من خلال تنمية القطاعات التي تملك فيها دبي أفضلية نسبية وهي القطاعات الخدمية كالخدمات المالية والمصرفية والسياحية وغيرها من القطاعات التي تحتاج إلى بيئة عمل خالية من التعقيدات البيروقراطية والضرائب العالية وتمتلك بنية تحتية متطورة وقد نجح هذا النموذج ،إلى حد كبير محولاً دبي –في سنوات قليلة- إلى مركز مالي وخدمي ليس على المستوى الإقليمي فحسب بل على المستوى العالمي ، أما النموذج الثاني فهو ما يمكن أن يُطلق عليه (المغامرة العقارية) ، حيث عمدت دبي إبتداءاً من عالم 2003- بعد نجاح مشروع النخلة- إلى الإستثمار بقوة في القطاع العقاري من خلال شركات حكومية أنشأت خصيصاً لهذا الغرض وقد تسارعت وتيرة الإستثمارات العقارية مع دخول شركات خاصة محلية وأجنبية مُستفيدة من الطفرة التي ولدتها الإستثمارات الحكومية وكذلك من سهولة التمويل وقلة التشريعات المُنظمة لعمل الشركات المطورة والقطاع العقاري عموماً ، وقد سار كل شئ على ما يرام إذا كان الجميع رابحاً ، الشركات المطورة والمصارف المُقرضة والمستثمرين والمضاربين ، بل أن أرباح بعض المضاربين كانت خيالية مما شجع دخول المزيد من المضاربين وبالتالي رفع الطلب على العقارات ومن ثم الإستثمارات العقارية وبذلك دخل السوق العقاري حلقة مُفرغة من الإرتفاع في الطلب يتلوه إرتفاع في الإستثمار يتلوه إرتفاع في الطلب. وهكذا إلى أن جاءت الأزمة المالية لتكشف المستور الذي لم يكن حقاً مستوراً بل كان ظاهراً ولكن الكثيرين لم يودوا أن يروه!!!!
وقد إعتمدت الشركات الحكومية على القروض بصورة كبيرة في إستثماراتها العقارية الضخمة التي تجاوزت الـ 80 مليار دولار حسب البيانات الرسمية ، وقد أدت الأزمة العالمية إلى الكثير من الفوضى في قطاع العقار الذي كان يعاني من المضاربات المفرطة وقصور تشريعي خطير ، وقد إزدات هذه الفوضى حدة مع إضطرار الكثير من المطورين –تحت وقع شح السيولة- إلى إلغاء الكثير من المشاريع المباعة سلفاً مما أحدث موجة من النزاعات بين المطورين والمشترين التي سيكون لها تأثير سلبي طويل الأجل على القطاع العقاري في دبي سيستمر حتى بعد إنحسار أثار الأزمة المالية ، كما إضطرت الأزمة المالية الشركات العقارية الحكومية كذلك إلى إعادة جدولة أو إعادة تمويل القروض الحالية أو اللجوء إلى الحكومة في حال فشلها في إعادة الجدولة أو التمويل مما أضطر هذه الأخيرة إلى إصدار سندات متوسطة الأجل بقيمة 20 مليار كدفعة أولى لتمويل ديون الشركات العقارية الحكومية وهو ما يعني تحويل الديون الخاصة القصيرة الأجل على الشركات إلى ديون سيادية طويلة الأجل مما قد يسبب أمران غاية في الخطورة: أولهما دخول حكومة دبي في الحلقة المفرغة الرهيبة للديون التي لا مخرج منها ، وثانيهما أنها قد تضطر إلى فرض الضرائب المُباشرة على الأعمال والدخول لتوفير الأموال اللازمة لخدمة هذه الديون وفوائدها مما سيفقد دبي أهم مميزاتها التي ساهمت في جعلها الوجهة الأولى للأعمال والإستثمارات في المنطقة ألا وهي عدم فرض ضرائب على الدخول.

· التــنمية الـــبشرية فـــــي نمـــــوذج دبــــي التنــــموي ومــــشكلة ســــوق العــــمل
من المعروف أن التنمية الإقتصادية المستدامة تعتمد بالدرجة الأولى على تنمية رأس المال البشري الذي يضمن تحقيق نسب نمو قابلة للإستمرار إلى مالا نهاية ، وتمثل اليابان خير مثال على ذلك إذ أنها لا تملك من المقومات الإقتصادية إلا النزر اليسير ولكن وبالرغم من ذلك تمكنت من تحقيق نسب نمو ممتازة لفترة تزيد على الـستين عاماً حتي الاَن وذلك مرده بالطبع تمتعها أو بالأحرى تنميتها لرأسمال بشري يتمتع بدرجة عالية من الكفاءة والإبداع ومن ثم التنافسية ، وإذا ما نظرنا لدور الرأسمال البشري في تجربة دبي نجد الاَتي: أولا أن الإستثمار في الكوادر الوطنية كان ضعيفاً حاله في ذلك حال سائر الدول العربية ، ثانياً أن الكثير من القطاعات الصناعية والخدمية تعتمد في الغالب على إستغلال العمالة غير الماهرة أو شبه الماهرة مما يعني أن تكلفة العامل على الإقتصاد الوطني (التكلفة على البنية التحتية وتكلفة الأمن والتكلفة البيئية) أعلى بكثير من العائد منه ، وثالثاً فأنه حتى القطاعات القليلة التي تعتمد على العمالة الماهرة تركن الشركات الوطنية والأجنبية العاملة فيها إلى إستجلاب عمالة أجنبية جاهزة عوضاً عن تأهيل الكوادر الوطنية ، هذا فيما يتعلق بالتنمية البشرية أما فيما يتعلق بسوق العمل ، فإنه يعاني من بعض التشوهات شأنه –مرة أخرى- شأن أسواق العمل في باقي الدول الخليجية ، منها –على سبيل المثال – الفرق الشاسع بين مخرجات التعليم الوطنية ومتطلبات سوق العمل المحلية ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن العمالة الوطنية تعاني أيضاً –إضافة إلى قصور التأهيل- من قصور غريب في الحماية التشريعية مما يجعلها في منافسة مباشرة مع عمالة العالم وكأنها في سوق عالمية وليس سوق محلية يفترض أن تتمتع بها الأيدي العاملة المحلية بشكل من أشكال الحماية من المنافسة غير العادلة من العمالة الأجنبية.

· كلـــــمة أخيــــــــرة (ولله الــــــــمثل الأعلــــــــــى)
من ما سبق يتبين للقارئ الكريم أن نموذج دبي في التنمية الإقتصادية بالرغم من الصورة اللامعة فإنه يبقى نموذج به من المثالب قدر ما به من المناقب ، ولنا – لتقريب الصورة لمن لم تقترب له بما فيه الكفاية-أن نورد المثال التالي:
مثل دبي في تنميتها الإقتصادية كمثل رجل يملك بيت وأراد أن يحول هذا البيت إلى سوق فدعى الباعة والمشترين من المشرق والمغرب ليزاولوا نشاطهم التجاري في بيته ، وقدم لهم في سبيل ذلك التسهيلات وتوافد الباعة والمشترون للإستفادة من هذه التسهيلات التي لا يجدونها في ديارهم ، إزدهر بذلك السوق وأصبحت له سمعة تتناقلها الركبان وأضطر صاحب البيت بسبب النجاح الكبير الذي حققه “السوق” وإزدياد إعداد الباعة والمشترين إلى توسع البيت وإضافة بعض الحجرات وإستبدال الباب بباب أكبر ليتسع للإعداد المتزايدة من الباعة والمشترين ، وبسبب توسع أعمالهم إستجلب الباعة العمال من الخارج للعمل وإزداد أعداد سكان البيت وأصبح سكانه قله وسط الأعداد المتزايدة من الباعة والمشترين والعمال وإزدادت المُنازعات بين الباعة والمشترين بسبب عدم وضع صاحب البيت السوق أو السوق البيت قوانين تنضم البيع والشراء كما أن العمال أخذوا يقومون بالإحتجاجات والإضرابات بسبب عدم دفع الباعة لمرتباتهم أو تأخيرها وأخذت الأخبار تتوارد عن صاحب البيت أنه لا يحسن معاملة العمال الذين يعملون في بيته أو سوقه مما عرضه للكثير من النقد ، وفي النهاية أخذ المُشترين سلعهم وأخذ الباعة نقودهم وأخذ العمال أجورهم وغادروا البيت إلى بيت جاره الذي قدم لهم تسهيلات أكبر وتركوا لصاحب البيت الكثير من المخلفات والقليل من الصيت الحسن
والله من وراء القصد…. ناصر أحمد بن غيث

مفوقل عن موقع دار السلام Darussalam.ae

3 thoughts on “قراءة متأنية في تجربة دبي التنموية لـ د. ناصر بن غيث

  1. إقتباس….”والحقيقة هي أن الواقع منزلة بين منزلتين إذ لم تكن تجربة دبي – كما وصفت في البداية- بأنها تجربة خارقة ولم تكن تجربة فاشلة كما نُعتت بعد الأزمة ولم يكن الإعلام وخاصة الغربي منصفاً لدبي عندما طبل لها في البداية كما لم يكن منصفاً الاَن عندما قلب لها ظهر المجن وقال في عوراتها ما لم يقله مالك في الخمر.”

    هذه المقالة كما وصفها كاتبها أنها منزلة بين منزلتين فكانت بعيدة عن التطبيل كما هو حال الإعلام المحلى الذي يعاني من حالة إنكار وكذلك بعيد عن التهويل كما هو حال الإعلام الغربي الذي يعاني من الحقد . دبي كانت لها محاولة تنموية شجاعة وطموحة شابها من الأخطاء ما شابها ولكن هذا لا يعني النهاية كما إدعى أو تمنى الإعلام الغربي , ولم تكن تجربة خارقة كما كان يعتقد أو يتمنى الإعلام المحلي , أرجو أن نستقي العبرة من هذا الدرس التي كانت دبي متفرده به كعادتها تقتحم المجهول تخفق أحياناً وتنجح أحياناً

Comments are closed.