قال تعالى : (( ولا تمدن عينيك إلى مامتعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى )) الآية 131، سورة طه

حينما نأتي لنحلل صورة وردت في نص، يكون لزاماً علينا أن نبقى ضمن حدوده، وبالمقابل يكون لزاماً ألا نبقى كذلك بالنسبة للعنصر الأساس في الصورة .
وعندما قلت : يجب علينا أن نبقى ضمن حدوده، فإني أعني ألا نخرج عن الإطار الذي فهمنا به النص، لكن هذا لا يعني أن يكون هو نفس الإطار الذي كتـُب فيه هذا النص؛ بمعنى أن للكاتب أن يكتب ما يشاء ويظهر ما يشاء ويوري مايشاء أيضاً إلا أنه يظلم نفسه ونصه إن ترقب رد فعل وحيد توقعه مسبقاً، بل إنه في الحقيقة لا يملك ذلك، ويبقى النص الأجمل هو النص الذي تتعدد قراءاته من شخص إلى آخر .

أما في قولي: ألا نبقى كذلك بالنسبة للعنصر الأساس في الصورة، فما قصدته هو أن نبحث في كل مايتصل بهذا العنصر من صفات تربطه بمعنى العبارة التي ورد في سياقها أولاً ثم المعنى الكلي للنص؛ ذلك لأن النص الجيد هو ما تربطه فكرة كلية، وتبقى أفكاره الجزئية لبنة تشارك في تشييد هذا الكل، وما شذ عن ذلك يكون زيادة غير مرغوبة وتحسب على النص.

ولأننا هنا نتحدث عن آية قرآنية فلن نتوقع أن نواجه ما هو مبهم أو صعب الفهم وإن تطلبت الآية منا قراءة متأنية ومتأملة إلا أن أسلوب القرآن فيه من الوضوح والسهولة الشيء الكثير.

أطلتُ في التقديم وسأبدأ الآن في رؤيتي التحليلية للصورة الواردة في الآية الكريمة أعلاه :

أورد أولاً عناصر التشبيه في الآية الكريمة : ما متعنا به، زهرة الحياة الدنيا، لنفتنهم فيه، ورزق ربك خير وأبقى.
العنصر الأساس: زهرة الحياة الدنيا.
التشبيه هنا ورد مضمراً، أي أنه من دون أداة، وكأن الحياة كنيت بالزهرة، فما هو وجه الشبه والغرض؟

تتميز الزهرة حتى وإن كانت سامة بشكلها ولونها الجميلين والمبهجين، و رائحتها ..
الزهرة تجذب بألوانها ورائحتها الحشرات ليتم تلقيحها، لكنها أيضاً تحمي نفسها بسُمّيتها من الحيوانات آكلة العشب، وبالرغم من هذا تبقى جميلة وجذابة..
والزهور أينما وجدت تضفي على المكان روعة وتبعث في سكانه راحة وسعادة لا مثيل لها كما هو الجمال دائماً، وهذه هي المتعة.
قد يتبادر لذهنك لماذا اخترت الصفات أعلاه من بين كل صفات الزهور ؟
بدأت أبحث عن مصادر المتعة في الزهرة، فسياق الآية يخبرنا بأن مامتع به أقواماً من الكفار هو زهرة الحياة الدنيا .
و في كل ما سبق معنى جزئي يحقق الفتنة لكنه يبقى معنى ناقصاً؛ فالفتنة ليست متعة وجمالاً فقط، بل هي أكثر من ذلك، هي لا تعطي دون أن تأخذ، ليست جمالاً مجرداً من ثمن ربما كان باهظاً، وهذا الثمن لا يـُدركُ إلا متأخراً أو ربما لا يدرك أبداً !
وكم من فتنة تصيب وتذهل وتفقد سيطرة من تصيبه، وكأنها سحر لا يملك الخلاص منه إلا من تحصن منه مسبقاً، هي وحل يلوث من وقع فيه ويعيق حركته، بل هي أكثر من وحل بادي القذارة، هي أكثر لؤماً وخبثاً، هي أكثر رخصاً ودناءة تلبس جميل اللباس وباهي الألوان لتواري سوءاتها البادية لذوي الألباب.

يبدو أنني اكتفيت بما توصلت إليه بما يخص وجه التشبيه الأول و سوف أنتقل لعنصر آخر:
” ورزق ربك خير وأبقى ” ما ورد هنا جعلني أستحضر صفة أخرى للزهرة، وهي عمرها القصير، فهي سرعان ما تذبل وينقطع عبيرها، ثم تجف فتتكسر، هي متعة لا تستغرق وقتاً طويلاً، ونعرف أن عمر الإنسان بأكمله بالنسبة للحياة الآخرة لا يعادل إلا لحظات فقط، فأي متعة استغرقت عمر الإنسان كاملاً ليست إلا دقائق تبقى خلالها الزهرة نضرة بعد قطفها بل حتى إن بقيت على أغصانها، فالزهرة إما أن تقتل إن كانت سامة، أو تموت هي إن كانت غير ذلك .

دعونا الآن نرى ما مقدار الكلمات التي اختصرتها بلاغة العلي العظيم في ثلاث كلمات ” زهرة الحياة الدنيا” !
إنه معنى، توجيه، وتربية..
كيف تم تسيير تفكير القارئ إلى استنتاج ينوله بارتياح، ليس لأن النتيجة مريحة، بل لأنه انقاد لها طوعاً من طريق كان ولا زال يسير عليه، فالمبادئ كانت لديه ومنه، والنتيجة كانت إليه.

لنعود إلى ” زهرة الحياة الدنيا” حتى هذه الجملة في ظاهرها تبدو مثل الزهرة لطيفة وجملية، دعوني أحكي لكم عن الانطباع الذي أخذته عند قراءتي لها:
أشعر بمعنى رقيق يختبئ خلفها، أتوق لأن أمد سبابتي إليها برفق لأداعب بتلاتها، لكن ما إن حاولت فهمها حتى اكتشفت أنها لن تكون لتعجبني ولم أعد أرغب بها لتعجبني أيضاً، ومع هذا لا زلت معها في إرخاء وشد، أليست فتنة؟

والآن وقد عرفت كيف ولأي غرض وردت الزهرة في القرآن كيف ستتغير رؤيتي لها؟
وكم من الأشياء أراها كالزهور جميلة جميلة لكنها حقيرة ودنيئة؟!

من شبه امرأة بزهرة، هل كان يعني هذا المعنى فعلاً، هل كان يحبها، أم يحتقرها ويكرهها لحبه لها ؟
من أهدى الحبيب باقة زهور، ألأنه لم يجد طريقة أخرى يملكه بها سوى افتتانه؟
من أهدى المريض باقة زهور، هل كان يعبر عن اشتياق الفتنة إليه؟
هل لأن المريض يشعر بضعفه وبحاجته إلى ربه يسارع الناس لإلهائه عن إلهه؟

ما رأيكم أنتم؟

………….
كل ما سبق هو نتاج قراءات وخبرة شخصية، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان.