دور دبي الاقتصادي وتحرير التجارة الدولية
سميح مسعود الحياة – 16/06/06//

تناولت مقالات وتعليقات كثيرة صفقة موانئ دبي العالمية التي نالت في البداية موافقة وزارة التجارة الأميركية ثم رفضها الكونغرس لأسباب أمنية. وأياً كان الأمر، اصبحت الصفقة في حكم الماضي، وآن الأوان لتوضيح ثلاث حقائق أساسية تتصل بمكانة دبي الاقتصادية، وتحرير التجارة والقرارات التي تتخذ وهي مغايرة لمبادئها.

ومؤدى الحقيقة الأولى، أن رفض الصفقة لا يقلل من مكانة دبي الاقتصادية، بل يزيدها متانة وتألقاً كأحد أهم المراكز التجارية الإقليمية والدولية. ولعل امتلاك مؤسسة موانئ دبي حوالى 46 ميناء حول العالم، أكبر دليل على ذلك، إضافة إلى أن ميناء جبل علي الذي تأسس عام 1985، تمكن على مدى عقدين من أن يصبح واحداً من أهم الموانئ الصناعية في العالم، يستقبل آلاف السفن، ويقدم خدماته إلى كثير من الدول.

ومع أنني لا ادعي معرفة شاملة بكل إنجازات دبي، إلا أن شواهد الحال تثبت أنها تجاوزت مظاهر النمو المعهودة في المنطقة العربية. وتتجه إلى أبعد ما يمكن من التوقعات في مجالات النجاح الإنمائي من دون النفط، اذ بدأ الخط البياني لنموها بالصعود عاماً بعد الآخر منذ عام 1993 (مع استثناء بسيط في عام 1998)، وأثبتت تجربتها أن النمو لا يتحقق بالنفط وحده. إذ تشير الإحصاءات الرسمية المتاحة لبلدية دبي أن النفط شكل في العام 2005 نحو 7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لدبي، مقارنة بنسبة 43 في المئة في العام 1992، اذ أنتجت أقل من 100 ألف برميل في العام الماضي، في حين بلغ إنتاجها في بداية العقد الماضي أربعة أضعاف هذه الكمية، ما يعني أن انتاجها من النفط مال نحو الانخفاض طيلة السنوات الماضية، ويتوقع أن يجف بالكامل في نهاية العقد الحالي.

وعليه ثمة إجماع على أن دبي بدأت في الانتعاش والصعود السريع في شتى المجالات الإنمائية، مع ميل إنتاج النفط الى التراجع والهبوط.

وأكد هذه المقولة ابن دبي عبدالخالق عبدالله (المنسق العام لمنتدى التنمية الخليجي) في دراسته الموسومة، دبي: «رحلة مدينة عربية من المحلية إلى العالمية»، بقوله: «ستكون دبي المرجع، وسيكون صعباً على المدن الأخرى تجاوز مرحلة النفط من دون مساعدتها، والرجوع إلى خبراتها وتجربتها الفريدة، والاستفادة من نموذج دبي التي أصبحت من دون النفط المدينة العربية الأسرع نمواً، والأفضل تنظيماً، والأكثر أمناً وانفتاحاً.

اندفعت دبي واحتلت مكانة متقدمة، وأصبحت عاصمة المال والأعمال، وعاصمة التسوق والسياحة والمعارض والطيران والمناطق الحرة، وتسعى الى ان تكون عاصمة العرب في مجال تقنية المعلومات والتجارة الإلكترونية، والإعلام المكتوب والمرئي والمسموع».

غني عن البيان أن نجاح دبي لا يعزى الى تفوق سياسي وتوجهات فكرية وعقائدية، بل الى نتاج الانفتاح التجاري والاندماج مع الاقتصاد العالمي، في إطار رؤى وأهداف تنسجم مع مستجدات القرن الحادي والعشرين. كانت في سباق مستمر مع الحداثة، وفي اتجاه دائم أكثر وأكثر مع التغيير والتطور، رغبة منها في مواكبة التوجهات الجديدة للاقتصاد العالمي، التي تفرضها العولمة والتحرير الاقصادي، والانفتاح في سياقات غدت أمراً واقعاً لا يمكن تغييره، لامتلاكها مقومات الاستمرار والانتشار، ما يستوجب على كل الاقتصادات الناشئة حتمية الاندماج فيها والتفاعل معها وجني المكاسب منها، وخصوصاً الحصول على التقنية المتطورة، والاستثمارات ونظم الإدارة والتنظيم المتقدمة، وفي الوقت نفسه توخي آثارها السلبية، لأن لا مكان في القرن الحالي للدول المنعزلة والمنكفئة على ذاتها، حتى الكبيرة منها التي تحتل مركزاً محورياً ومهماً على خارطة الاقتصاد العالمي.

ومفاد الحقيقة الثانية، أن رفض الصفقة ليس بالقتامة التي حاول بعض الصحف العربية تصويرها بها، والمبالغة في تأثيرها على تقويض نظام التجارة العالمي، لأنها ظاهرة غير جديدة على هذا النظام. إذ تظهر مثلها بين الحين والآخر ممارسات مشابهة من جانب الدول الكبرى وكذلك النامية، لا تتوافق مع روح منظمة التجارة العالمية، ولا مع الأسس التي قامت عليها، كما لا تتوافق مع تحرير التجارة والمساواة في المعاملة.

لذا يعتمد نظام التجارة العالمي على تنظيم جولات المفاوضات التجارية المتعددة الطرف المتعاقبة، لتقليص الممارسات الخاطئة في العلاقات التجارية بين الدول، وإحراز مستويات أعلى لتحرير التجارة. كما يوجد في إطار منظمة التجارة العالمية جهاز لتسوية النزاعات، تقوم بوظيفة المحكمة الدولية (اذا جاز التعبير) للفصل في المنازعات التي تثور بين الدول في شأن علاقاتها التجارية، وذلك للنظر في القضايا التي يدفعها طرف متعاقد في المنظمة ضد طرف أو أكثر من الأطراف الآخرين المتعاقدين، بما يساعد على حماية الدول الضعيفة، والتصدي لسوء استخدام بعض الدول مبادئ تحرير التجارة ذريعة لتحقيق مصالحها الذاتية.

ويتمــيز جهاز تســــوية المنازعات بملامح أهمها أن يكون هناك إجماع حول إقامة هيئات تحكيم والـــــموافقة على تقـــــارير هذه الهيئات، ما يعني عدم قدرة أطراف النزاع في النــــظام التجاري المتعدد الطرف (الممثل بمنــــظمة التجارة العــــالمية) على عرقلة الــــقرارات، إضافة إلى أن جهاز تســــوية المنازعات يمنع اتخاذ قرارات ثأرية فردية من دون موافقة المجلس العام للمــــنظمة الذي يمثل جهاز تسوية المنازعات.

أما الحقيقة الثالثة، فمفادها أن دولاً عدة تلجأ الى الخروج عن قواعد تحرير التجارة المقررة في منظمة التجارة العالمية، وحتى خرق اتفاقاتها والالتفاف عليها في كثير من الحالات إذا تعارضت مع مصالحها.

وعموماً تعج ملفات جهاز تسوية النزاعات في منظمة التجارة العالمية شكاوى تجارية، منها 81 شكوى مقدمة من الولايات المتحدة وحدها ضد دول أخرى، من العام 1995 وحتى الآن. كما بلغ عدد الشكاوى ضدها في الفترة نفسها 90. ومن جانب آخر، بلغ عدد الشكاوى التي رفعها الاتحاد الأوروبي ضد الآخرين في المدة نفسها 81، فيما بلغ عددها من الآخرين ضده 90.

ومن الأمثلة عن الشكاوى ضد الولايات المتحدة، شكوى تقدمت بها فنزويلا بسبب التمييز ضد واردات الولايات المتحدة من الغازولين المستورد من فنزويلا، وساندتها البرازيل في هذه الشكوى، التي تدور حول تطبيق القرار الأميركي الخاص بالهواء النقي للحفاظ على البيئة، على مواصفات الغازولين الفنزويلي من دون المنتج الأميركي، ما يخالف المعاملة الوطنية في اتفاق الغات. وكانت حجة الولايات المتحدة أن هذا الاتفاق يعطي حق الاستثناء من القواعد العامة لحماية البيئة والصحة العامة.

ويشار إلى أن لجنة التحكيم عززت الموقف الفنزويلي في شأن هذه الشكوى، وطـــلبت من الولايات المتحدة سحب قرارها الذي يتضمن انتهاك المعاملة الوطنية، واستأنفت الولايات المتحدة قرار لجنة التحكيم، لكن في النهاية صدر الحكم بتعزيز قرار لجنة التحكيم، لمصلحة فنزويلا.

من جانب آخر، هناك أمثلة تبين ان الدول المتقدمة الكبرى انتزعت أيضاً قرارات لمصلحتها باللجوء إلى جهاز تحكيم المنازعات في منظمة التجارة العالمية، منها تحديداً ما يتعلق بفرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية على واردات الصلب من اليابان والاتحاد الأوروبي، اذ أصدرت هيئة التحكيم في منظمة التجارة العالمية قراراً ضد الولايات المتحدة في هذا الشأن، واضطرت الأخيرة إلى إلغاء هذه الرسوم مدعية زوال الظروف التي أدت إلى فرضها.

وهناك أمثلة أخرى كـــثيرة مشابهة لهذه الشكاوى تثــــبت كلها من دون أدنى شك، أن جهاز حل النزاعات على جــــانب كبير من الأهمية في تعزيز حرية التجارة الدولية، والتصدي للممارســــات الخاطئة التي تشوهها.

ولكي يؤدي هذا الجهاز دوره في حماية قواعد التجارة الدولية، وصون حــــقوق الدول النامية، ومـــنع تحكم الدول الكبرى، لا بد للدول نفسها من العمل على استـــــكمال حلقات انفتاح اقتصاداتها على بعضها البعض، وزيادة أطر التفاعل في ما بينها، بعيداً من الانفعالات السياسية، وتوجهات الهيمنة، مع الإسراع في اندماج أسواقها، وخصوصاً في مجالات الاســـــتثمارات المباشرة، وانتقال الأموال، والتقنية واليد العاملة، إضـــــافة إلى تقيد كل الدول بقواعد النظام التجاري المتعدد الطرف وضوابطه، لجــــعل العلاقات التجارية في ما بينها أكثر شفافية، وأقل إثارة للنزاعات وعلى مستويات عالية من الانفتاح والحرية.

ولن أضيف جديداً بالقول إن الحرية التي تسهل إجراء الصفقات التجارية وانسياب السلع تنزع إلى أن تكون – بحسب تعبير آماريتا صن – القاطرة الكبرى المحركة للنمو الاقتصادي، شرط أن يصاحبها في الوقت نفسه تنامي دور الحريات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية القادرة على صنع الريادة. وهذا ما جعل من دبي مدينة رائدة، ولم تعد مدينة كبقية المدن الأخرى.

خبير اقتصادي في المركز الكندي لدراسات الشرق الأوسط.