اقتصاد أمريكا معرّض لخطر “أُمّ الانهيارات”

مارتن وولف
“كنت أقول لجمهور الحضور إننا نواجه ليس فقاعة وإنما رغوة، نواجه عدداً كبيراً من كرات الرغوة الصغيرة، فقاعات محلية لم تبلغ قط من الكبر حداً يمكن أن يهدد صحة الاقتصاد ككل”.
ألان جرينسبان*
كانت تلك نظرة جرينسبان لفقاعة الإسكان في الولايات المتحدة. ما يدعو للأسف أنه كان على خطأ. إذن ما مدى السوء الذي يمكن أن يصل إليه هذا الهبوط الاقتصادي؟ لتقديم جواب عن هذا السؤال ينبغي أن نسأل شخصاً يؤمن بصدق بنظرة تشاؤمية حول ظروف الأعمال. والشخص المفضل لديّ في هذا المقام هو نورييل روبيني، الأستاذ في مدرسة شتيرن للأعمال في جامعة نيويورك، ومؤسس موقع RGE monitor على الإنترنت (المتخصص في التحليلات الاقتصادية).
في الفترة الأخيرة، كانت السيناريوهات التي يرسمها روبيني تبلغ حداً من السوء تقشعر منه الأبدان. لكن أفكاره جديرة بأن تُحمَل على محمل الجد. فقد توقع في البداية حدوث كساد اقتصادي في الولايات المتحدة في تموز (يوليو) 2006**. في ذلك الحين كانت وجهة نظره مثيرة للجدل إلى حد كبير، لكنها لم تعد الآن كذلك. وهو يقول الآن إن هناك “احتمالاً متزايداً لأن تكون النتيجة كارثية على الصعيد المالي والاقتصادي”***. ويجادل بأن سمات هذا السيناريو هي على النحو التالي: “حلقة مفرغة يعمل فيها الكساد العميق على تعميق مقدار الخسائر المالية وزيادة حدتها، وبدورها فإن الخسائر المالية الكبيرة والمتزايدة والانهيار المالي يجعلان الكساد حتى أكثر حدة من ذي قبل”.
إن روبيني مغرم بالقوائم حتى أكثر مما أنا مغرم بها. وهذه هي الخطوات التي يبلغ تعدادها 12، نعم 12 خطوة، نحو الكارثة الاقتصادية.
الخطوة الأولى هي أسوأ كساد في قطاع الإسكان في تاريخ الولايات المتحدة. وهو يقول إن أسعار المساكن ستهبط ما بين 20 إلى 30 في المائة من أعلى مستوياتها، وهذا سيأكل ما بين أربعة آلاف مليار وستة آلاف مليار من قيمة المساكن. وسينتهي المطاف بعشرة ملايين أسرة إلى أن يكون لديها “ملكية سالبة” في مسكنها، وبالتالي سيكون لها حافز هائل لأن تضع مفتاح البيت في البريد وترحل إلى مكان دون مشكلات. وسيكون الإفلاس مصير كثير غيرهم من شركات المشاريع الإسكانية.
الخطوة الثانية هي المزيد من الخسائر في قطاع القروض السكنية لضعيفي الملاءة، بحيث تفوق التقديرات الحالية، المقدرة الآن بين 250 مليارا و300 مليار دولار. ويجادل روبيني بأن نحو 60 في المائة من جميع القروض السكنية التي تم الاتفاق بشأنها بين عامي 2005 و2007 لها “سمات تدل على عدم الاكتراث، أو أنها سامة”. ويقدر بنك جولدمان ساكس الخسائر بأنها في حدود 400 مليار دولار. لكن إذا هبطت أسعار المساكن بأكثر من 20 في المائة، فإن الخسائر ستكون أكبر من ذلك. وسيعمل هذا على إلحاق المزيد من الأضرار بقدرة البنوك على توفير القروض.
الخطوة الثالثة، خسائر كبيرة في القروض الاستهلاكية غير المُؤَمّنة، مثل بطاقات الائتمان وقروض السيارات والقروض الدراسية التي تُصرَف للطلبة، وما إلى ذلك. في هذا الحالة، فإن “الانقباض الائتماني” سينتشر من القروض السكنية إلى نطاق واسع من القروض الاستهلاكية.
الخطوة الرابعة، تخفيض المرتبة الائتمانية لشركات التأمين على السندات، التي لا تستحق المرتبة AAA التي تعتمد عليها أعمال هذه الشركات. وستكون نتيجة ذلك شطب مبالغ إضافية مقدارها 150 مليار دولار من السندات المدعومة بالموجودات.
الخطوة الخامسة، انهيار سوق العقارات التجارية، في حين أن الخطوة السادسة ستكون إفلاس أحد البنوك الكبيرة على مستوى منطقة معينة أو على مستوى الولايات المتحدة.
الخطوة السابعة، خسائر كبيرة في عمليات شراء الشركات العامة من قبل شركات الأسهم الخاصة، التي تتم من خلال قروض لا يراعى فيها جانب الحذر. ويجري الآن شطب مئات المليارات من القروض التي من هذا القبيل من الميزانيات العمومية للمؤسسات المالية.
الخطوة الثامنة، موجة من حالات الإعسار لدى الشركات. إن الشركات الأمريكية، في المتوسط، في وضع جيد، لكن هناك عدد من الشركات التي تتسم بأن لها ما يُعرف بـ “الذيل السميك” للتوزيع المعياري، أي الشركات التي لديها ربحية ضئيلة وديون ثقيلة. حالات الإعسار التي من هذا القبيل ستعمل على نشر الخسائر في الأوراق المالية التي يطلق عليها “عقود تبادل المخاطر الائتمانية”، التي تعطي التأمين لهذه الديون. يمكن أن تكون الخسائر في حدود 250 مليار دولار. ونتيجة لذلك ربما تفلس بعض شركات التأمين.
الخطوة التاسعة، انهيار “النظام المالي الموازي”. وستزداد صعوبة التعامل مع الأوضاع السيئة لصناديق التحوط والأدوات الاستثمارية الخاصة وما إلى ذلك، بالنظر إلى أنه لن يكون بمستطاعها الحصول بصورة مباشرة على قروض من البنوك المركزية.
الخطوة العاشرة، المزيد من الانهيار في أسعار الأسهم. ويمكن لانهيار شركات صناديق التحوط ومطالبة المستثمرين بدفع بقية المبالغ في تداولات الأوراق المالية والاضطرار إلى بيع خيارات الأسهم قبل هبوط أسعارها، أن تؤدي إلى هبوط متتال في الأسعار.
الخطوة الحادية عشرة، جفاف السيولة في أقسام من الأسواق المالية، بما في ذلك سوق التعاملات بين البنوك وأسواق المال. وخلف هذا كله سيكون هناك ارتفاع كبير في المخاوف حول ملاءة المؤسسات.
الخطوة الثانية عشرة “حلقة مفرغة من الخسائر والتخفيض الرأسمالي، والتقلص الائتماني، والتصفية بالإكراه، وبيع الموجودات بسرعة وخسارة ودون الأسعار الأساسية”.
هذه هي إذن الخطوات الـ 12 نحو الانهيار. ويجادل روبيني بأنه نتيجة لهذه الخطوات جميعاً، فإن “الخسائر الإجمالية في النظام المالي ستبلغ في مجموعها أكثر من ألف مليار دولار، وسيصبح الكساد الاقتصادي أعمق وأطول وأكثر حدة”. ويشير إلى أن هذا هو “سيناريو الكوابيس” الذي يحرم بن برنانكي ورفاقه في بنك الاحتياطي الفيدرالي من النوم. وهذا يفسر السبب في أن بنك الاحتياطي الفيدرالي، بعد أن أخفق في إدراك المخاطر لفترة طويلة، قرر تخفيض أسعار الفائدة بواقع 200 نقطة أساس هذا العام. فهذه التخفيضات هي تأمين ضد حدوث انهيار مالي.
هل هذا النوع من السيناريوهات على الأقل وارد وممكن الحدوث؟ نعم. فضلاً عن ذلك، سنكون على ثقة أنه إن وقع فعلاً فإنه سيضع حداً لكل حكايات عدم التأثر بما يحدث في الولايات المتحدة. فإذا استمر الكساد ستة أرباع (سنة ونصف السنة)، كما يحذر روبيني، فإن إجراءات السياسة الاقتصادية الرامية إلى التصدي لهذا الكساد في بقية بلدان العالم ستكون أقل مما يجب وستأتي بعد فوات الأوان.
هل يستطيع بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يحول دون وقوع هذا الخطر؟ في مقال لاحق للمقال الأول يعطي روبيني ثمانية أسباب يبين فيها عدم قدرة البنك على الحؤول دون وقوع هذا الخطر****. (إنه فعلاً يحب القوائم!). فيما يلي عرض موجز لهذه الأسباب: سياسة التخفيف النقدي في الولايات المتحدة مقيدة بالمخاطر التي يتعرض الدولار لها وبمخاطر التضخم، التخفيف النشط في السياسة النقدية يتعامل فقط مع مشكلات ندرة السيولة وليس مع حالات الإعسار، ستخسر شركات التأمين على السندات تقييماتها التأمينية وستكون لذلك عواقب وخيمة، ستكون الخسائر الإجمالية كبيرة فوق الحد بحيث تعجز صناديق الثروات السيادية عن التعامل معها، تدَخُّل الحكومة سيكون أصغر من الحد اللازم لإعادة الاستقرار إلى خسائر المساكن، لا يستطيع بنك الاحتياطي الفيدرالي التعامل مع مشمكلات النظام المالي الموازي، لا تستطيع الأجهزة الرقابية العثور على سبيل وسط جيد بين الشفافية حول الخسائر والصبر الرقابي وكليهما تدعو الحاجة إليه، وأخيراً النظام المالي القائم على التعاملات والصفقات هو نفسه يعاني أزمة حادة.
هذه المخاطر عالية بالتأكيد، وقدرة السلطات على التعامل معها محدودة بصورة تقل عما يرجوه معظم الناس. وليس معنى ذلك أننا نقول إنه لا توجد طرق للخروج من الأزمة، لكنها للأسف طرق مسمومة. في الملاذ الأخير تعمل الحكومات على حل الأزمات المالية. هذا قانون حديدي. يمكن للإنقاذ أن يأتي على صورة تحَمُّل الحكومة بصورة مكشوفة للديون أو التضخم أو كليهما. اختارت اليابان السبيل الأول، رغم أن وزارة المالية اليابانية اتخذت القرار وهي كارهة. لكن اليابان بلد دائن يتمتع بالثقة الكاملة من منقذيه من حيث الملاءة التامة لحكومته. أما الولايات المتحدة فهي بلد مدين. ويجب عليها أن تحافظ على ثقة الأجانب. فإذا أخفقت في المحافظة على هذه الثقة، فإن الحل التضخمي يصبح ممكناً. وهذا سبب كاف تماماً لتفسير ارتفاع سعر الذهب ليصبح 920 دولاراً للأونصة.
إن العلاقة بين انفجار فقاعة الإسكان وهشاشة النظام المالي خلقت مخاطر هائلة، بالنسبة للولايات المتحدة وبالنسبة لبقية العالم. ويأتي الآن القطاع العام في الولايات المتحدة للنجدة، وفي مقدمته بنك الاحتياطي الفيدرالي. لكن الرحلة على الأرجح ستكون مزعجة وبائس.

>> المصدر : فاينانشيال تايمز
الرابط