أن أمر رفع قيمة الدرهم أعقد بكثير مما يتصور أغلب الناس. ففي الوقت الذي ترتفع فيه القوة الشرائية للأفراد سيخسر الاقتصاد مليارات الدراهم من انخفاض عائدات النفط المقدرة بالدرهم ومن انخفاض قيمة رصيد الحكومة من النقد الأجنبي مقدراً بالدرهم الأمر الذي سيغير جذرياً السياسات المالية والنقدية للدوله وسيسهم في زعزعة الاستقرار الاقتصادي ولكن بفرض أن الدراسات أثبتت أن صافي المنافع والمساوئ يتطلب رفع قيمة الدرهم وبفرض أن مؤسسة النقد قررت رفع قيمة الدرهم كيف يمكن لمؤسسة النقد أن تقوم بذلك وما الطريقة المثلى فإذا كان يجب رفع قيمة الدرهم بمقدار 20 في المائة مقابل الدولار هل يتم رفعه مرة واحدة؟ على مرحلتين؟ ثلاث مراحل؟ أم يتم رفعه بتدرج بطيء؟ وهل سيسمح لقيمة الدرهم بالتذبذب ضمن نطاق معين أم أنه سيكون محدداً بسعر ثابت في كل مرحلة؟ وهل سيتم الإعلان عن الرفع بشكل مفاجئ أم يتم الإعلان عنه بشكل مبكر قبل موعد التطبيق؟
هناك دروس يمكن أن تستفيد منها مؤسسة النقد من عدة دول خاصة الصين. فمشكلة اليوان الصيني خلال السنوات الماضية لا تختلف كثيراً عن مشكلة الدرهم. أجبرت العديد من الضغوط الاقتصادية والسياسية الصين على رفع قيمة اليوان حيث قررت رفع اليوان تدريجياً كما سمحت له بالتذبذب ضمن نطاق ضيق. ولكن هذا لا يعني بالضرورة نجاح التجربة الصينية في الدوله لأسباب عديدة منها أن حجم اقتصاد الدوله صغير نسبياً مقارنة بالاقتصاد الصيني وأن أغلب النمو الاقتصادي في الدوله يعود لارتفاع أسعار النفط خلال السنوات الأربع الماضية بينما يعود نمو الاقتصاد الصيني لزيادة ضخمة في الإنتاج وأن الدوله ما زالت تعتمد على النفط كمصدر أساس للدخل بينما يتميز الاقتصاد الصيني بتنوع أكبر رغم اعتماده الكبير على الصادرات وأن الرفع التدريجي مع وجود نطاق محدد للتذبذب عنى أن القيمة ستكون دائما عند الحد الأعلى للنطاق كما أسهم في زيادة شكلية في الاستثمار الأجنبي والذي أسهم بدوره في زيادة التضخم بدون أن يزيد من إنتاجية الصين.
مخاطر الإعلان عن النية لرفع الدرهم أو الإشارة إلى ذلك تشير تجارب الدول التي غيرت سعر عملتها إلى أنه يجب أن تتم دراسات رفع قيمة الدرهم بمنتهى السرية وأن يتم التعامل معها كأنها سر عسكري خطير وأن يتم الإعلان عن رفع قيمة الدرهم بشكل مفاجئ. إعلان الكويت المفاجئ عن فك ارتباط عملتها بالدولار وربطها بسلة من العملات في الفتره الماضيه يوضح أن الكويت استوعبت هذا الدرس جيداً وما انتقاد بعض الكتاب للكويت بأنها لم تعلن عن نواياها مسبقاً وأنها لم تشارك هذه المعلومات مع دول مجلس التعاون إلا دليل على أن هؤلاء الكتاب يجهلون أساسيات السياسات الاقتصادية.إذا صرح أي مسؤول بأن الدوله تنوي رفع سعر صرف الدرهم فماذا سيحدث؟ الاستثمار الأجنبي سيرتفع بين عشية وضحاها بشكل لم تشهده الدوله من قبل. المستثمرون سيغرقون السوق بتحويلاتهم الضخمة من الخارج. الطلب على الدرهم سيزداد في شتى أنحاء العالم.لماذا؟ إذا افترضنا أن التصريح أشار إلى رفع قيمة الدرهم وافترضنا أيضاً أن التوقعات، والمبنية على دراسات متعددة تشير إلى أن الدرهم أقل من قيمته الحقيقية بالنسبة للدولار بمقدار 20 % فإن أي مستثمر يمكنه تحويل عشرة ملايين دولار، مثلاً، إلى الدرهم أو أن يقوم بشراء أراض أو أصول مالية داخل الدوله ثم يتخلص منها بعد رفع سعر الدرهم. في هذه الحالة سيحقق هذا المستثمر أرباحاً تتجاوز مليون دولار خلال فترة قصيرة من الزمن وبعملية تجارية واحدة. فهو سيحول دولاراته إلى الدرهم ليحصل على 37.5 مليون درهم (10 ملايين دولار ـ 3.75 درهم) حسب سعر الصرف الحالي. بعد رفع الدرهم بمقدار 20 في المائة، يمكنه إعادة الدرهم إلى دولارات ولكنها الآن تساوي 11.111 مليون دولار (37.5 مليون درهم 3.375 (سعر الصرف الجديد) = 11.111 مليون دولار). ولكن الأمر لا يتعلق بعشرة ملايين دولار فقط، وإنما قد يصل إلى مليارات الدولارات. هذه العمليات تعرف بالمضاربات على الدرهم
المشكلة أن هذه الاستثمارات مؤقتة ولا تسهم في زيادة الإنتاج أو الإنتاجية لأن هدفها هو الاستفادة من فرق العملة متى تم رفع سعر صرف الدرهم ثم تعود من حيث أتت. أغلب هذه الاستثمارات سيكون إما على شكل ودائع في البنوك ومشتقاتها المالية أو على شكل استثمارات عقارية. الودائع البنكية ومشتقاتها ستسهم في زيادة عرض النقود وسيكون لها تأثيرات عديدة منها الضغط على أسعار الفائدة وزيادة التنافس غير الصحي بين البنوك والذي سيؤدي بدوره إلى زيادة القروض ذات المخاطرة العالية وزيادة حالات الإفلاس. الاستثمارات العقارية سترفع أسعار الأراضي بشكل جنوني ولفترة مؤقتة الأمر الذي سيؤثر سلباً في المواطنين و المقيمين من جهة والاقتصاد ككل من جهة أخرى المشكلة الأخرى أن الدوله غير الصين. فاقتصاد الدوله صغير مقارنة باقتصاد الصين، وكمية الدراهم المعروضة محدودة. هذا يعني أن اقتصاد الدوله والدرهم الاماراتي ربما لا يتحملان الضغط الهائل الذي يمكن أن تمارسه المضاربات على الدرهم والتي سترفع سعر صرفه في الأسواق العالمية لشدة الطلب عليه وندرته في السوق. هذه المضاربات قد ترفع سعر الدرهم إلى مستويات أعلى مما يستحق وستجبر مؤسسة النقد على بيع المزيد من الدرهم لتخفيف الضغط عنه الأمر الذي سيزيد من عرض النقود وسيرفع معدلات التضخم فوق المعدلات الحالية. إضافة إلى ذلك فإن صغر حجم اقتصاد الدوله مقارنة بالاقتصاد الصيني يعني احتمال تعرضه لهزة من جراء دخول استثمارات ضخمة ثم خروجها بسرعة أو ارتفاع حدة المضاربات علىالدرهم أو ارتفاع معدلات التضخم.

الحلول كلها صعبة

الحل الأول يتمثل في إبقاء صرف سعر الدرهم مقابل الدولار كما هو مع التأكيد المستمر أن الدوله لا ترغب في تغيير سعر الصرف وهو السياسة الحالية. في هذه الحالة ستنخفض المضاربات على الدرهم و ربما تنعدم. إلا أن الخسائر الناتجة عن الاستمرار في هذه السياسة مع استمرار انخفاض الدولار لا يمكن تجاهلها، والتي تتضمن انخفاض القوة الشرائية لدخل الفرد.

الحل الثاني يتمثل في رفع الدرهم بطريقة ما يتم فيها التخفيف من حدة المضاربات على الدرهم. يمكن أن يتم ذلك عن طريق إعلان مفاجئ برفع تدريجي بطيء جداً. لا حاجة في هذه الحال إلى خلق نطاق يتذبذب فيه الدرهم كما فعلت الصين بعملتها لأن الارتفاع التدريجي يقتضي بالضرورة أن يكون السعر عند الحد الأعلى للنطاق دائماً. طبعاً من شروط نجاح هذه السياسة أن تكون الزيادة في قيمة الدرهم أقل من أسعار الفائدة العالمية خلال الفترة نفسها حتى يتم منع المضاربين من المضاربة على الدرهم

و لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل تكاليف رفع الدرهم تساوي المنافع الضئيلة الناتجة عن زيادات بسيطة على مدى فترة طويلة من الزمن؟

الحلول مثل رفع كبير و مفاجئ و لمرة واحدة، غير مقبولة لأسباب كثيرة منها أن الرفع المفاجئ سيفيد فئات و قطاعات معنية على حساب فئات وقطاعات أخرى، كما أنه سيزيد من مستوى المضاربات كلما انتشرت إشاعات تفيد باحتمال رفع الدرهم مرة أخرى.

قد يرى البعض حلاً ثالثاً وهو فك ارتباط الدرهم بالدولار كلياً أو جزئياً، الأمر الذي يتطلب تعويمه أو ربطه بسلة من العملات. ولكن التعويم ليس حلاً لأن هناك إجماعاً لدى الخبراء في هذا المجال أن من أساسيات استقرار الاقتصاد في الدول التي تعتمد على مصدر واحد للدخل هو ربط عملتها بعملة رئيسة مثل الدولار.

بعبارة أخرى على الذي ينادون بفصل الدرهم عن الدولار أن ينادوا بتنويع مصادر الدخل أولا ومتى تم تنويع مصادر الدخل فإنه من المنطقي أن تتم المطالبة بفصل الدرهم عن الدولار. أمر فك الربط جزئياً مثلما فعلت الصين لا فائدة منه لأنه كما سلف سيتحدد سعر الصرف في حالة ارتفاع الدرهم عند الحد الأعلى للنطاق بينما سيتحدد سعر الصرف في الحد الأدنى من النطاق في حالة انخفاض قيمة الدرهم. الربط بسلة من عملات أمر ليس معقداً فقط ولكن منافعه بسيطة إذا كانت أغلب تعاملات الدوله مع الدول الأخرى بالدولار. بعبارة أخرى حتى لو تم ربط الدرهم بسلة من العملات فإنه سيكون للدولار نصيب الأسد منها ليس فقط بسبب واردات الدوله من الولايات المتحدة ولكن أيضاً بسبب العقود الدولارية مع دول أخرى في أوروبا وآسيا.

قد يقترح البعض ربط الدرهم باليورو. هذا ليس حلاً لأن مساوئ ربط الدرهم بالدولار هي نفس مساوئ ربط الدرهم باليورو. كل ما هنالك أن اليورو ارتفع مقابل الدولار في السنوات الأخيره وهذه الأمور قد تتغير في المستقبل.
المشكلة الأساسية، التي ذكرت أن تغيير قيمة الدرهم مع كل تغير كبير في قيمة الدولار سيسبب تغيرات هيكلية في الاقتصاد. فرفع قيمة الدرهم سترفع حصة الاستهلاك على حساب الصادرات بينما سيؤدي خفض قيمة الدرهم فيما بعد عندما يرتفع سعر صرف الدولار وتنخفض أسعار النفط إلى تخفيض حصة الاستهلاك في الاقتصاد. هذه التغيرات ستسبب تناقضات كبيرة توحي بأن السياسة الحالية لمؤسسة النقد هي أفضل الخيارات خاصة على المدى الطويل.علينا أن نتذكر أنه يمكن للدولار أن يرتفع ويرفع الدرهم معه. نظراً لأن ارتفاع الدولار يخفض أسعار النفط، فإن ارتفاع الدولار قد يقتضي تخفيض الدرهم. فإذا قامت مؤسسة النقد برفع قيمة الدرهم حالياً فإنها ستضطر إلى تخفيضه في حالة ارتفاع الدولار وانخفاض أسعار النفط. الذين يطالبون برفع قيمة الدرهم عليهم أن يكونوا أكثر حذراً في مطالبهم لأن أكثر المنافع من رفع الدرهم تصب في صالح الأفراد وليس الاقتصاد ككل.

فإذا ارتفع الدولار وانخفضت أسعار النفط فإن منطقهم يقتضي بالضرورة تخفيض قيمة الدرهم عندها سنجد أن الأفراد سيخسرون ولكن الاقتصاد ككل قد يستفيد. الأمر الأهم أن هذه التغيرات في سعر صرف الدرهم ستكون على حساب الاستقرار الاقتصادي وكما هو معروف فإن الاستقرار الاقتصادي هو أحد أهم العوامل التي تحكم معدلات الادخار والاستثمار والاستهلاك.

خلاصة القول عملية رفع الدرهم أعقد بكثير مما يتصور أكثر الناس وطالما أن الأفراد يتأثرون من انخفاض القوة الشرائية الدرهم بسبب ربطه بالدولار الذي انخفض في السنوات الأخيرة و طالما أن هناك أمورأً كثيرة تمنع رفع سعر صرف الدرهم فإن على مؤسسة النقد وغيرها من المؤسسات الحكومية نشر الوعي الاقتصادي. نشر الوعي الاقتصادي يتطلب صحافة متخصصة وصحافيين “مثقفين اقتصادياً”، كما أنه يتطلب تحسين العلاقة بين المؤسسات الحكومية المختلفة ووسائل الإعلام.

العبء يقع على الجميع بما في ذلك وسائل الإعلام وإلا فإن الهوة بين السياسات الحكومية ووسائل الإعلام ستتسع وسيدفع الجميع ثمناً باهظاً لوجودها. لهذا فإن هناك ضرورة للتعاون بين هذه المؤسسات ووسائل الإعلام ضمن رؤية واضحة هدفها تعزيز الانتماء الوطني وبناء اقتصاد قوي

3 thoughts on “$$$ الدرهم المعقد $$$

  1. مشكور الصراحه على هذا المقال، في احد المحللين الماليين السعوديين يقول افضل شي ربط العمله بالذهب او العملة الذهبية … ما ادري شو رايك؟؟

Comments are closed.