ما عندك شغل أدخل

وأقرا هاي القصة

لا زال ينظر اٍليها من خلف نافذته الصغيرة ، يرمقها حركة حركة ،يتبعها بعينيه اٍلى أن تختفي وسط الظلام بخطاها اليائسة ،لم يكن يغطي جسدها تحت البرد القارس سوى ذلك الفستان المهترئ القديم ، كانت رغم كل ظروفها تحافظ على ابتسامتها البريئة مخفية ورائها العديد من الآهات و الذكريات الحزينة.
لم يكن يعرف ما يشده اٍليها : أهو الفضول أم الشفقة ؟ و أي شفقة قد تتسلل اٍلى قلب ذلك القاضي الشره {القاضي وائل العامري} .
{ عرف وائل بالجدية في تعامله و الصرامة في عمله ،بالالتزام في مواعيده و القوة في شخصيته ، كان واثقا من نفسه في كل شيء ليصل به الأمر لدرجة الغرور في أغلب الأحيان } .
تنفس الصعداء و استغرب في نفسه اهتمامه الزائد بها { آه ما بك تترك لبائعة متجولة أن تتسلل اٍلى أفكارك } قالها قبل أن يغلق نافذته ليذهب للنوم ، و كان هذا حاله منذ أن ظهرت تلك البائعة بحيهم .
جاء الصباح وهو لا يزال يترنح في سريره يفكر بها ، و على رنات المنبه نهظ كعادته متلهف للذهاب اٍلى عمله ، للالتهام و تناول قضية جديدة.
كان شارد الذهن هذا اليوم نوعا ما ، يشغل باله طيفها ، حتى أنه أنهى عمله بسرعة ، مارا مرور الكرام على كل قضاياه ، كل هذا من أجل الفكرة التي خطرت بباله ، فقد فكر في المبادرة و التقرب اليها ، التقرب اٍلى البائعة المتجولة .
اعتذر لصديقه الذي كان يدعى ثائر بأنه لن يستطيع انتظاره حتى يوصله، اذ كانت عادته أخد ثائر معه في طريقه ليوصله الى بيته، و أخبره أن لديه أمر يجب عليه أن يقضيه ، و دون أن يشرح لصديقه أي شيء خرج مسرعا نحو سيارته آخدا و جهته نحو بيته ، اذا لم نقل نحو تلك البائعة المتجولة .
وصل اٍليها وركن سيارته جانبا ثم نزل منها و أخد ينظر للبائعة نظرات تردد ، هل يكلمها أم لا ، حسنا ربما يشتري منها شيئا أولا ، تقدم في بطء و اٍحساس بالخوف يعتريه ، كان قليلا ما يشعر بهذا الاٍحساس : حين يكون أمام الحكم في قضية مستعصية أو حين تتصل به أمه و لا يجد الأعذار لتبرير تغيبه عنها .
وهو يتقدم اٍليها هزت رأسها لترمقه بنظرة جعلته يتوقف مكانه ، جعلته يحس و كأنها يعرفها من زمان ، جعلته يستغرب في نفسه ما يحدث ، سألها بخوف لم يكن يعي سببه : بكم تبيعين هذه الأشياء ؟
أجابته بكل رقة : كل شيء له ثمنه سيدي .
ليقول و هو لا يدري لما دقات قلبه تتسارع هكذا : حسنا أنا سأشتري هذه الدمية الصغيرة .
ابتسمت بعد ان أمسكت بها : هذه دميتي ، ليست للبيع ، لكن اٍن كنت تود شرائها لابنتك قد أعطيها لك هدية .
اعتذر لها و قال انه لا يملك أطفالا فهو غير متزوج ثم قال بأنه سيشتري منها أي شيء هي تريد ، و مستعد لشراء كل ما تعرضه ، لتزيد ابتسامتها عرضا و تقول : لكن هذه أشياء لي فكيف أبيعها ؟
استغرب وائل ما يسمعه بقدر ما أخافه ، فقد بدأ يحس من كلامها و برودها أنها تخفي شيئا ، و تبادر لذهنه أسئلة حيرته ، اذا لم تكن تعرض شيئا للبيع ، فماذا تبيع ؟ و اٍن لم تكن بائعة متجولة فمن تكون؟؟ فابتسمت و كأنها قرأت أفكاره و قالت : كل ما في الأمر سيد وائل أن بضاعتي نفذت فلا تستغرب ذلك .
هز رأسه مبتسما و كأنه تفهم ذلك ليتبع ابتسامته شحوب على وجهه و ليبادر بسؤال أظحك البائعة : أعيدي ماذا قلتي ، سيدي … سيدي ماذا …؟
نظرت اليه في سخرية و قالت : سيد وائل .
و لكن كيف لهذ البائعة أن تعرف اسمي ، ليخرجه من تفكيره مرة أخرى اجابتها : ومن لا يعرف القاضي المشهور وائل ، الكل هنا يسمع عنك و عن حكمتك و عن جديتك و أمانتك في العمل ، وبكل غرور كعادته هز رأسه قائلا: أجل أجل أعرف ذلك ، المهم أخبريني ، ألا تحتاجين الى شيء ؟ ألا تودين مساعدة ؟
أجابته و قد ظهر على محياها نوع من الحزن و هي تقول : نعم أنا أحتاج اٍلى مساعدة ، فأمي طريحة الفراش و أبي مات من خمسة أشهر ، ولا أحد يهتم بأمي غيري ، لذا فأنا مظطرة لأخرج كل ليلة تحت هذا الجو القارس للبيع حتى أتمكن من توفير الدواء لها و تغطية غياب أبي . كانت تتكلم و الدموع تكاد تنهمر من عينيها .
يا الاهي كيف لطفلة في هذا السن أن يحدث معها كل هذا ، ألا يوجد من عائلتها شخص آخر ليهتم بها ، ومن جديد و كأنها قرأت أفكاره قالت : لقد كان لي خال وحيد ، لكن أخباره انقطعت عنا منذ أكثر من عشر سنوات ، و لا أحد يعرف له طريقا.
لا يدري لماذا أحس وائل تجاهها بالمسؤولية و أنه عليه مساعدتها و مساعدة والدتها ، و كم استغرب في نفسه هذا الاحساس ، فهو أقسى من ما يمكن تصوره ، و من جديد بادرت لتخرجه من أسئلته قائلة شكرا لك سيدي على تفكيرك النبيل و يسعدني التشرف بمعرفتك و سيسعد أمي أن تستضيفك في بيتنا ، و اٍن أردت يمكنك زيارتنا غذا .. أفرحه تجاوبها السريع هذا ، و مبادرتها هي بطلب أن يأتي لزيارة أمها ، أخذ العنوان منها و قامت هي من مكانها هامة بالرحيل، ألقت عليه التحية و استأذنته كي تذهب ، ليوقفها صوته و يسألها : هل لي أن أعرف ماذا كنت تفعلين هنا اليوم ، أقصد أليست بضاعتك منتهية ؟
ظحكت ظحكة مستفزة اٍياه بها و ليزيد جوابها من حيرته : كنت أنتظر مجيئك سيدي ، فربما بدل بائعة متجولة أصير بائعة قدر .
صمت برهة وسألها من جديد : مزحة جميلة و لقب جميل ، لكنه أكبر من طفلة في مثل سنك ، أخبريني ما اسمك ؟
و بعد ان رمقته بخبث : أجل ، طفلة صغيرة ، لكن ما أتحمله لن يستطيعه عجوز في سنك ، و أنا اسمي عفاف ، الا أني أفضل أن تناديني كما سميتني أول مرة : البائعة المتجولة ، وسارت دون أن تنتظر منه ردا .
جلس هو مكانها حيث كانت تجلس و أخد يرقبها الى أن ابتلعتها ظلمة الطريق من جديد ، صعد اٍلى منزله ، ولم يستطع ليلتها أن ينام ، لم يفهم منها ما كانت تقصد من كلامها ، كيف كانت تنتظرني ؟؟ لماذا تجلس دون بضاعة ،؟؟ ام هي بضاعتها و لم تشئ بيعها لي ؟؟ ماذا تعني ببائعة قدر؟؟ لا لا ، ربما مجرد دعابة طفلة صغيرة ، و لكن كيف لطفلة أن تقول هذا الكلام الأكبر منها ؟؟ يا ويلي هل سأجن بسبب كلمات طفلة صغيرة ؟؟ و لكن ما لهذا الاحساس يعتريني ؟؟
حاول النوم عبثا ليلتها و سط هذه الزحمة من الأسئلة التي يليها سؤال آخر: و هو لماذا يتسائل كل هذه الأسئلة ؟
على العموم سأعرف ذلك غذا ، لم ينتبه حتى و جد أن الصبح حل ، نهظ هذه المرة في عياء لعمله ، و مرت عليه الساعة في عمله و كأنها سنة ، فقد كان ينتظر بلهفة موعد انتهائه حتى يذهب لرؤية الصغيرة من جديد و ربما ليذهب لرؤية أمها ، كآخر مرة اعتذر لصديقه ثائر و خرج مسرعا ، و توجه اٍليها حيث تجلس كل ليلة ، لكنه لم يجدها ، كانت هذه صدمة لم يتوقعها ،فكيف لم تأتي و هي التي لم تتغيب ولا يوم منذ أن جائت لهذا المكان ، انزعج كمن ينزعح على موعد مع شخص ما و لم يحظر، اذ لم يجد سوى مكانها المعتاد تغطيه كتل من الثلج المتساقط .
لم يعرف حينها ما يفعل و دخل ككل مرة في دوامة من الأسئلة: هل أنتظر أن تأتي أم أذهب اٍلى العنوان الذي أعطته اٍياه ، وأطمئن عليها ، ولكن ماذا أقصد بأطمئن ، لا علاقة لي بها ، فل تذهب و أفكارها للجحيم ، لا لا ، ربما حصل مكروه يجب أن أذهب لمنزلها .
كان يعرف أن كل هذه التساؤلات ما هي اٍلا مبرر لسبب ذهابه لزيارتها ، فهو في داخله يعرف كم يشده الفضول ليعرف ماكنت تعنيه حين كلمته آخر مرة ، و ليعرف أسرار عائلتها اكثر ، و ليتمكن من مساعدتها كما يزعم ،وليشفي هذا الغليل الذي اعتراه .
غير ملابسه و اتجه اٍلى أقرب محل و اشترى منه بعض الهدايا و توجه الى العنوان الذي أعطته ،فقد كان كله أمل أن يكون العنوان حقيقي ، اذ يمكن توقع أي شيء من هذه الطفلة التي تبدو أكبر من سنها في طريقة كلامها .
ركب سيارته و توجه لهذفه التافه كما سماه ، و في طريقه اكتشف أنه لا يوجد أجن منه على ما يقدم عليه الآن ، لكن ذلك لم يردعه فتابع طريقه بكل عزم و لهفة ، وها هو ذا أمام حيها الذي قالت عيله ، بل هاهو أمام منزلها مباشرة ، نزل و توجه نحو بابها و طرق الباب في لطف ، لم يسمعه احد ، طرق مرة اخرى ، ولم يسمع أحد أيضا ، أخد يطرق بقوة أكبر ، حتى سمعه الجيران لتفتح احدى الجارات بابها و تسأله عن ما يريد ، فقال: أسأل عن عفاف ، أقصد أم عفاف .. نظرت اٍليه المرأة في استغراب و سألته من يكون ، لم يكن يعرف بما يجيبها فقال أنه أخ أم عفاف ، لتصمت المرأة لبرهة و تقول بصوت متقطع : سيدي يؤسفني أن اقول لك أن أختك توفيت .. لم يعرف بما يجيبها فقد ظن أن هذا سبب اختفاء عفاف هذا اليوم فسألها و أين عفاف ، لتبدأ المرأة بالبكاء و قالت : المسكينة عفاف ، بعد أن حكم على أبيها بالاعدام بقيت هي و أمها وحيدتين ،كانت المسكينة تذهب لبيع بعض الألعاب لتشتري ما تستطيعه من طعام لوالدتها التي طرحت على الفراش بعد الذي حل بزوجها ، ثم سيدي بعد أن توفيت أختك رحمها الله جن جنون عفاف ، كنت قد آويتها في منزلي ، كنت أعاملها كواحدة من بين بناتي و كذلك عاملها كل سكان الحي ، لكن صدمتها كانت أقوى منها، أقوى من أن يستوعبها عقلها الصغير ، فكانت تتخيل صورة أبيها قادم و تقوم راكظة نحوه ، و أحيانا تراه قادم وهي في النافذة فتخرج اٍلى الشارع مسرعة نحوه ، وهي على هذه الحال حتى ذات يوم كانت تركظ بالشارع نحو ما يتبادر لذهنها من تخيلات لتصدمها سيارة مارة بالشارع مسرعة .
لقد عانت المسكينة كثيرا و كم عانينا بفراقها ، وقد مر على هذا الحادث ثلات سنوات .
لم يتمالك نفسه و لم يصدق ما قالته المرأة ، فهو ليس مجنونا ، و اٍن كانت ما تقوله المرأة صحيحا ، فمن تلك الطفلة التي كلمته و أعطته هذا العنوان ، فقال لها : سيدتي هل أنت متؤكدة مما تقولين ؟ ماذا كان اسم والدها ؟
أجابته السيدة في حزن و عيناها غارقة و سط الدموع : وهل تظنني سيدي أكذب في أمر كهذا ؟ و يمكنك أن تسأل أهل الحارة كلهم ، و أبوها هو عصام منتصر عصام ، الذي راح ضحية جريمة لم يرتكبها .
لم يعد يقوى على سماع المزيد و توجه بسرعة الى سيارته التي أخد يقودها بسرعة جنونية تسابق الرياح ، توجه الى مكتبه مباشرة و اطلع على السجلات القديمة ، ووجد فعلا اسم أب عفاف ضمن لائحة السجناء و أنه فعلا تم الحكم عليه بالاعدام، و الصاعقة التي جعلته يجلس مكانه دون حراك ، أن قضية أب عفاف كانت احدى قضاياه و أنه هو من حكم بالاعدام عليه .
لم يدري ما يفعل حينها ،ماذا يصدق و ماذا لا يصدق ، ثم أخد يسترجع الأحداث ، كيف أن عفاف كانت غريبة الأطوار ، و كيف ان كلامها كان أكبر منها ، و كيف أن جلوسها في الشارع لم يكن ينتبه له أحد غيره ، وكيف أنها تجلس تحت الثلج المتساقط و البرد القارس بفستانها القديم دون أن تبدي أي شعور آدمي نحو هذا الطقس ، و كيف أنا نظراتها كانت جافة ، بل و كيف أنها كانت تقرأ أفكاره دون أن يخبرها بها .
يا الاهي هل كنت أكلم شبحا ، هل كنت أكلم فتاة من الأموات؟ .. لم يستطع وائل الصبر و اجتراع المزيد ، لم يعد يقوى على التحمل و خصوصا حين هز رأسه ليجد شبح عفاف أمامه تظحك و تقول: سيدي .. سيدي أنا مجرد بائعة أقدار و لقد أخبرتك حين كلمتني أول مرة أن لكل شيء ثمنه ، وأنت لم تصدقني ولم تأخد كلامي على محمل جد .. و بدأت تقترب منه في بطء ، ليخرج مسدسه من مكتبه و لتتعالى من عفاف ظحكات طفولية تملأها الشيطانية و تقول : كم أتمنى ان يكونوا ثلاث طلقات : الأولى لأبي و الثانية لأمي و الثالثة لروحي التي تسارعت للقاء والداي ، و ما زالت تقترب منه في بطء ونظرات تملأها السخرية من هذا القاضي الذي كان لا يعرف قلبه معنى الاهتزاز ، من القاضي الذي صار يبلع ريقه أكثر من مرة في الثاتية ،من القاضي الذي في جبن صوب مسدسه و وضعه في فمه لتنطلق منه الرصاصة آخذة معها روحه.

م
ن
ق
و
ل

One thought on “إذا فاضي وماعندك شغل وملان ادخل

Comments are closed.