بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الصادق الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
هذا كتاب ماتع لفضيلة الشيخ العلامة صالح بن عبدالله الفوزان،
قال في مقدمته :
( فهذا كتاب في علم التوحيد، وقد راعيت فيه الاختصار مع سهولة العبارة، وقد اقتبسته من مصادر كثيرة من كتب أئمتنا الأعلام، ولا سيما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب العلامة ابن القيم، وكتب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه من أئمة هذه الدعوة المباركة، ومما لا شك فيه أن علم العقيدة الإسلامية هو العلم الأساسي الذي تجدر العناية به تعلمًا وتعليمًا وعملًا بموجبه؛ لتكون الأعمال صحيحة مقبولة عند الله نافعة للعاملين، وخصوصًا وأننا في زمان كثرت فيه التيارات المنحرفة؛ تيار الإلحاد، وتيار التصوف والرهبنة، وتيار القبورية الوثنية، وتيار البدع المخالفة للهدي النبوي، وكلها تيارات خطيرة ما لم يكن المسلم مسلحًا بسلاح العقيدة الصحيحة المرتكزة على الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة، فإنه حري أن تجرفه تلك التيارات المضلة؛ وهذا مما يستدعي العناية التامة بتعليم العقيدة الصحيحة لأبناء المسلمين من مصادرها الأصيلة. )
وسأقوم بنقل الكتاب على فترات ..
وبالله التوفيق …..
( 12 )
الفصل الثاني
في بيان معنى الشهادتين وما وقع فيهما من الخطأ
وأركانهما وشروطهما ومقتضاهما ونواقضهما
أولًا: معنى الشهادتين:
معنى شهادة أن لا إله إلا الله: الاعتقاد والإقرار، أنه لا يستحقُ العبادةَ إلا الله، والتزام ذلك والعمل به، (فلا إله) نفي لاستحقاق من سوى الله للعبادة، ومعنى هذه الكلمة إجمالًا: لا معبود بحق إلا الله. وخبر (لا) يجب تقديره: (بحق) ولا يجوز تقديره بموجود؛ لأنَّ هذا خلافُ الواقع، فالمعبوداتُ غيرُ الله موجودة بكثرة؛ فيلزم منه أن عبادة هذه الأشياء عبادة لله، وهذا من أبطل الباطل وهو مذهب أهل وحدة الوجود الذين هم أكفر أهل الأرض. وقد فُسرتْ هذه الكلمةُ بتفسيرات باطلة منها:
( أ) أن معناه: لا معبود إلا الله. وهذا باطل؛ لأن معناه: أن كل معبود بحق أو باطل هو الله، كما سبق بيانه قريبًا.
( ب) أن معناها: لا خالق إلا الله. وهذا جزء من معنى هذه الكلمة؛ ولكن ليس هو المقصود؛ لأنه لا يثبت إلا توحيد الربوبية، وهو لا يكفي وهو توحيد المشركين.
( جـ) أن معناها: لا حاكمية إلا لله، وهذا أيضًا جزء من معناها، وليس هو المقصود؛ لأنه لا يكفي، لأنه لو أفرد الله بالحاكمية فقط ودعا غير الله أو صرف له شيئًا من العبادة لم يكن موحدًا، وكل هذه تفاسير باطلة أو ناقصة؛ وإنما نبهنا عليها لأنها توجد في بعض الكتب المتداولة.
والتفسيرُ الصحيح لهذه الكلمة عند السلف والمحققين:
أن يقال: (لا معبود بحق إلا الله) كما سبق.
2 ـ ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله: هو الاعتراف باطنًا وظاهرًا أنه عبد الله ورسوله إلى الناس كافة، والعمل بمقتضى ذلك من طاعته فيما أمر، وتصديقه فما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعبدَ الله إلا بما شرع.
ثانيًا: أركان الشهادتين:
أ ـ لا إله إلا الله: لها ركنان هما: النفي والإثبات:
فالركن الأول: النفي: لا إله: يُبطل الشرك بجميع أنواعه، و يوجب الكفر بكل ما يعبد من دون الله.
و الركن الثاني: الإثبات: إلا الله: يثبت أنه لا يستحق العبادة إلا الله، ويوجب العمل بذلك. وقد جاء معنى هذين الركنين في كثير من الآيات، مثل قوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى }. [البقرة: 256. ]
فقوله: (من يكفر بالطاغوت) هو معنى الركن الأول (لا إله) وقوله: (و يؤمن بالله) هو معنى الركن الثاني (إلا الله).
وكذلك قوله عن إبراهيم عليه السلام: { إنني براء مما تعبدون (26) إلا الذي فطرني }. [الزخرف: 26، 27. ]
فقوله: (إنني براء) هو معنى النفي في الركن الأول، وقوله: (إلا الذي فطرني) هو معنى الإثبات في الركن الثاني.
أركان شهادة أن محمدًا رسول الله: لها ركنان هما قولنا: عبدُه ورسوله، وهما ينفيان الإفراط والتفريط في حقه صلى الله عليه وسلم فهو عبده ورسوله، وهو أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين، ومعنى العبد هنا: المملوك العابد، أي: أنه بشرٌ مخلوق مما خلق منه البشر؛ يجري عليه ما يجري عليهم، كما قال تعالى: { قل إنما أنا بشر مثلكم} [الكهف: 110. ]، وقد وفى صلى الله عليه وسلم العبودية حقها، ومدحه الله بذلك، قال تعالى: { أليس الله بكاف عبده } [الزمر: 36. ]، { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } [الكهف: 1. ]، { سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام }. [الإسراء: 1. ]
ومعنى الرسول: المبعوث إلى الناس كافة بالدعوة إلى الله بشيرًا ونذيرًا.
وفي الشهادة له بهاتين الصفتين: نفي للإفراط والتفريط في حقه صلى الله عليه وسلم، فإن كثيرًا ممن يدعي أنه من أمته أفرط في حقه، وغلا فيه؛ حتى رفعه فوق مرتبة العبودية إلى مرتبة العبادة له من دون الله؛ فاستغاث به من دون الله، وطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله؛ من قضاء الحاجات وتفريج الكربات. والبعض الآخر جحد رسالته أو فرط في متابعته، واعتمد على الآراء والأقوال المخالفة لما جاء به؛ وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه.
ثالثًا: شروط الشهادتين:
أ ـ شروط لا إله إلا الله:
لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها، وهي على سبيل الإجمال:
الأول: العلم المنافي للجهل.
الثاني: اليقين المنافي للشك.
الثالث: القبول المنافي للرد.
الرابع: الانقيادُ المنافي للترك.
الخامس: الإخلاص المنافي للشرك.
السادس: الصدق المنافي للكذب.
السابع: المحبة المنافية لضدها وهو البغضاء.
وأما تفصيلها فكما يلي:
الشرط الأول:
العلم: أي العلم بمعناها المراد منها وما تنفيه وما تثبته، المنافي للجهل بذلك، قال تعالى: { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون }. [الزخرف: 86. ]
أي: (شهد) بلا إله إلا الله، (وهُم يعلمون) بقلوبهم ما شهدت به ألسنتهم، فلو نطق بها وهو لا يعلم معناها، لم تنفعه؛ لأنه لم يعتقد ما تدل عليه.
الشرط الثاني:
اليقين: بأن يكون قائلها مستيقنًا بما تدل عليه؛ فإن كان شاكًا بما تدل عليه لم تنفعه، قال تعالى: { إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا }. [الحجرات: 15. ]
فإن كان مرتابًا كان منافقًا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” من لقيتَ وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا قلبه فبشره بالجنة ” [الحديث في الصحيح.] فمن لم يستيقن بها قلبه، لم يستحق دخولَ الجنة.
الشرط الثالث:
القبول لما اقتضته هذه الكلمة من عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه؛ فمن قالها ولم يقبل ذلك ولم يلتزم به؛ كان من الذين قال الله فيهم: { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون (35) ويقولون إئنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون (36) }. [الصافات: 35، 36. ]
وهذا كحال عباد القبور اليوم؛ فإنهم يقولون: (لا إله إلا الله )، ولا يتركون عبادة القبور؛ فلا يكونون قابلين لمعنى لا إله إلا الله.
الشرط الرابع:
الانقياد لما دلت عليه، قال تعالى: { و من يسلم وجهه إلى الله و هو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى }. [لقمان: 22. ]
والعروة الوثقى: لا إله إلا الله؛ ومعنى يسلم وجهه: أي ينقاد لله بالإخلاص له.
الشرط الخامس:
الصدق: وهو أن يقول هذه الكلمة مصدقًا بها قلبُه، فإن قالها بلسانه ولم يصدق بها قلبُه؛ كان منافقًا كاذبًا، قال تعالى: { ومن الناس من يقول ءامنا بالله واليوم الأخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين ءامنوا} إلى قوله: { ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون }. [البقرة: 8 ـ 10. ]
الشرط السادس:
الإخلاص: وهو تصفية العمل من جميع شوائب الشرك؛ بأن لا يقصد بقولها طمعًا من مطامع الدنيا، ولا رياء ولا سمعة؛ لما في الحديث الصحيح من حديث عتبان قال: ” فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله “. [الحديث أخرجه الشيخان. ]
الشرط السابع:
المحبة لهذه الكلمة، ولما تدل عليه، ولأهلها العاملين بمقتضاها، قال تعالى:
{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حبا لله }. [البقرة: 165. ]
فأهل (لا إله إلا الله) يحبون الله حبا خالصًا، وأهل الشرك يحبونه ويحبون معه غيره، وهذا ينافي مقتضى لا إله إلا الله.
ب ـ وشروط شهادة أن محمدًا رسول الله هي:
1 ـ الاعتراف برسالته، واعتقادها باطنًا في القلب.
2 ـ النطق بذلك، والاعتراف به ظاهرًا باللسان.
3 ـ المتابعة له؛ بأن يعمل بما جاء به من الحق، ويترك ما نهى عنه من الباطل.
4 ـ تصديقه فيما أخبر به من الغيوب الماضية والمستقبلة.
5 ـ محبته أشد من محبة النفس والمال والولد والوالد والناس أجمعين.
6 ـ تقديم قوله على قول كل أحد، والعمل بسنته.
رابعًا: مقتضى الشهادتين:
أ ـ مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله: هو ترك عبادة ما سوى الله من جميع المعبودات، المدلول عليه بالنفي وهو قولنا: ( لا إله ). وعبادة الله وحده لا شريك له، المدلول عليه بالإثبات، وهو قولنا: ( إلا الله )، فكثير ممن يقولها يُخالف مقتضاها؛ فيثبت الإلهية المنفية للمخلوقين والقبور والمشاهد والطواغيت والأشجار والأحجار.
وهؤلاء اعتقدوا أن التوحيد بدعة، وأنكروه على من دعاهُم إليه، وعابوا على من أخلصلى الله عليه وسلم العبادة لله.
ب ـ ومقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله: طاعتهُ وتصديقُهُ، وترك ما نهى عنه، والاقتصار على العمل بسنته، وترك ما عداها من البدع والمحدثات، وتقديم قوله على قول كل أحد.
خامسًا: نواقض الشهادتين:
هي نواقض الإسلام؛ لأن الشهادتين هنا هما اللتان يدخل المرء بالنطق بهما في الإسلام، والنطق بهما اعتراف بمدلولهما، والتزام بالقيام بما تقضيانه؛ من أداء شعائر الإسلام، فإذا أخل بهذا الالتزام فقد نقض التعهد الذي تعهد به حين نطق بالشهادتين. ونواقض الإسلام كثيرةٌ قد عقد لها الفقهاء في كتب الفقه بابًا خاصًا سموه ( باب الردة )، وأهمها عشرة نواقض ذكرها شيخ الإسلام محمدُ بنُ عبد الوهاب رحمه الله في قوله:
1 ـ الشرك في عبادة الله، قال الله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 48، 116. ]، وقال تعالى: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } [المائدة: 72. ]. ومنه الذبحُ لغير الله؛ كالذبح للأضرحة أو الذبح للجن.
2 ـ من جعل بينَهُ وبينَ الله وسائط؛ يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم؛ فإنه يكفر إجماعًا.
3 ـ من لم يكفر المشركين، ومن يشكّ في كفرهم، أو صحح مذهبهم؛ كفر.
4 ـ من اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويفضلون حكم القوانين على حكم الإسلام.
5 ـ من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولو عمل به ـ؛ كفر.
6 ـ من استهزأ بشيء من دين الرسول أو ثوابه أو عقابه؛ كفر، والدليل على ذلك قوله تعالى: { قل أبالله وءايته ورسوله كنتم تستهزءون (65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم }. [التوبة: 65، 66. ]
7 ـ السحرُ، ومنهُ الصرفُ والعطفُ ( لعله يقصد عمل ما يصَرفُ الرجلَ عن حب زوجته، أو عمل ما يحببها إليه) فمن فعلَه، أو رضي به؛ كفرَ، والدليل قوله تعالى: { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر }. [البقرة: 102. ]
8 ـ مظاهرة المشركين، ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [المائدة: 51. ]
9 ـ من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى، عليه السلام؛ فهو كافر. قلت: وكما يعتقده غلاة الصوفية أنهم يَصلون إلى درجةٍ، لا يحتاجون مَعها إلى متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
10 ـ الإعراض عن دين الله، لا يتعلمُهُ، ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } [الأحقاف: 3. ]، { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون }. [السجدة: 22. ]
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: ( لا فرق في جميع هذه النواقض، بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطرًا، وأكثر ما يكون وقوعًا، فينبغي للمسلم أن يحذرَها، ويخاف منها على نفسه، نعوذُ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه ).
يتبـــــع >>>
( 11 )
الفصل الأول
في بيان معنى توحيد الألوهية وأنه موضوع دعوة الرسل
توحيد الألوهية: الألوهية هي العبادة:
وتوحيد الألوهية هو: إفراد الله تعالى بأفعال العباد التي يفعلونها على وجه التقرب المشروع، كالدعاء والنذر والنحر، والرجاء والخوف، والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة، وهذا النوع من التوحيد هو موضوع دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، قال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [النحل: 36. ]، وقال تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }. [الأنبياء: 25. ]
وكلُّ رسول يبدأ دعوته لقومه بالأمر بتوحيد الألوهية، كما قال نوح وهود وصالح وشعيب: { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [الأعراف: 59، 65، 73، 85. ]، {وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه }. [العنكبوت: 16. ]
وأنزل على محمد صلى الله عليه وسلم: { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصًا له الدين }. [الزمر: 11. ]
وقال صلى الله عليه وسلم: ” أمرت أن أقاتل الناس؛ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله “. [الحديث رواه البخاري ومسلم. ]
وأول واجب على المكلف: شهادة أن لا إله إلا الله والعمل بها، قال تعالى: { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك }. [محمد: 19. ]
وأول ما يؤمر به مَنْ يريد الدخول في الإسلام: النطقُ بالشهادتين، فتبين من هذا: أن توحيد الألوهية هو مقصودُ دعوة الرُّسل، وسُمِّي بذلك، لأن الألوهية وصف الله تعالى الدال عليه اسمه تعالى (الله )، فالله: ذو الألوهية، أي المعبود.
ويقال له: توحيد العبادة؛ باعتبار أن العبودية وصفُ العبد، حيثُ إنه يجبُ عليه أن يعبد الله مخلصًا في ذلك؛ لحاجته إلى ربه وفقره إليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:
( واعلم أن فقر العبد إلى الله: أن يعبده لا يُشرك به شيئًا، ليس له نظير فيُقاسُ به؛ لكن يُشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة؛ فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلاهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره. ولو حصل للعبد لذات وسرور بغير الله، فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال، وكل وقت وأينما كان فهو معه ). [مجموع الفتاوى (1 / 24 ). ]
وكان هذا النوع من التوحيد هو موضوع دعوة الرسل؛ لأنه الأساسُ الذي تُبنى عليه جميع الأعمال، وبدون تحققه لا تصحُ جميعُ الأعمال: فإنه إذا لم يتحقق؛ حصل ضده، وهو الشركُ، و قد قال الله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 48، 116. ]، وقال تعالى: { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } [الأنعام: 88. ]، وقال تعالى: { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين }. [الزمر: 65. ]
ولأن هذا النوع من التوحيد؛ هو أول الحقوق الواجبة على العبد، كما قال تعالى: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا } [النساء: 36.] الآية، وقال تعالى: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا } [الإسراء: 23.] الآية، وقال تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا } [الأنعام: 151 ـ 153.] الآيات.
يتبــــع >>>
( 10 )
2 ـ توحيد الألوهية
ويتضمن الفصول التالية:
الفصل الأول: في معنى توحيد الألوهية وأنه موضوع دعوة الرسل.
الفصل الثاني: الشهادتان: معناهما ـ أركانهما ـ شروطهما ـ مقتضهما ـ نواقضهما.
الفصل الثالث: في التشريع: التحليل ـ التحريم ـ حق الله.
الفصل الرابع: في العبادة: معناها ـ أنواعها ـ شمولها.
الفصل الخامس: في بيان مفاهيم خاطئة في تحديد العبادة (وذلك كالتقصير في مدلول العبادة أو الغلو فيها).
الفصل السادس: في بيان ركائز العبودية الصحيحة: الحب ـ الخوف ـ الخضوع ـ الرجاء.
الفصل السابع: في بيان شروط قبول العبادة والعمل: وهي الإخلاص ومتابعة الشرع.
الفصل الثامن: في بيان مراتب الدين وهي: الإسلام ـ والإيمان ـ والإحسان. تعريفها وما بينها من عموم وخصوص.
يتبـــــــع >>>
( 9 )
الفصل الخامس
بيان استلزام توحيد الربوبية لتوحيد الألوهية
ومعنى ذلك أن من أقر بتوحيد الربوبية لله، فاعترف بأنه لا خالق ولا رازق ولا مدبر للكون إلا الله ـ عز وجل ـ، لزمه أن يقر بأنه لا يستحق العبادة بجميع أنواعها إلا الله سبحانه، وهذا هو توحيد الألوهية، فإن الألوهية هي العبادة؛ فالإله معناه: المعبود، فلا يُدعى إلا الله، ولا يُستغاثُ إلا به، ولا يُتوَكَّلُ إلا عليه، و لا تذبح القرابين وتُنذر النذورُ ولا تُصرفُ جميعُ أنواع العبادة إلا له؛ فتوحيدُ الربوبية دليلٌ لوجوب توحيد الألوهية؛ ولهذا كثيرًا ما يتحجُّ الله ـ سبحانه ـ على المنكرين لتوحيد الألوهية بما أقروا به من توحيد الربوبية، مثل قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21) الذي جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون (22) }. [البقرة: 21، 22. ]
فأمرهم بتوحيد الألوهية، وهو عبادتهُ، واحتَجَّ عليهم بتوحيد الرُّبوبية الذي هو خلقُ الناس الأولين والآخرين، وخلقُ السماءِ والأرضِ وما فيهما، وتسخير الرياح وإنزالُ المطر، وإنباتُ النبات، وإخراج الثمرات التي هي رزق العباد، فلا يليق بهم أن يُشركوا معه غيره؛ ممن يعلمون أنه لم يفعل شيئًا من ذلك، ولا من غيره، فالطريق الفطري لإثبات توحيد الألوهية: الاستدلال عليه بتوحيد الربوبية، فإن الإنسان يتعلق أولًا بمصدر خلقه، ومنشأ نفعه وضره؛ ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقربه إليه، وترضيه عنه، وتوثق الصلة بينه وبينه، فتوحيد الربوبية تبابٌ لتوحيد الألوهية؛ من أجل ذلك اتحج الله على المشركين بهذه الطريقة، وأمر رسَوله أن يحتج بها عليهم، فقال تعالى: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون (84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون (85) قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم (86) سيقولون لله قل أفلا تتقون (87) قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون (88) سيقولون لله قل فأنى تسحرون }. [المؤمنون: 84 ـ 89. ]
وقال تعالى: {ذالكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه }. [الأنعام: 102. ]
فقد احتج بتفرده بالربوبية على استحقاقه للعبادة، وتوحيد الألوهية: هو الذي خلق الخلق من أجله، قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }. [الذاريات: 56. ]
ومعنى (يعبدون ): يُفردوني بالعبادة، ولا يكون العبدُ موحدًا بمجرد اعترافه بتوحيد الربوبية؛ حتى يُقرَّ بتوحيد الألوهية، ويقومَ به، وإلا فإنَّ المشركين كانوا مُقرِّينَ بتوحيدِ الربوبية، ولم يُدخلهم في الإسلام، وقاتلهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهمُ يُقرُّون بأن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف: 87. ]، { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } [الزخرف: 9. ]، { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله }. [يونس: 31. ]
وهذا كثيرٌ في القرآن، فمن زعمَ أنَّ التوحيدَ هُو الإقرارُ بوجود الله، أو الإقرار بأن الله هو الخالق المتصرف في الكون، واقتصر على هذا النوع؛ لم يكُن عارفًا لحقيقة التوحيد الذي دعَتْ إليه الرسل؛ لأنَّهُ وقفَ عندَ الملزوم وترك اللازم، أو وقف عند الدليل وترك المدلول عليه.
ومن خصائص الألوهية: الكمالُ المطلقُ من جميع الوجوه؛ الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها لها وحده، والتعظيم والإجلال، والخشية والدعاء، والرجاء، والإنابة، والتوكل والاستغاثة، وغاية الذلِّ مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلًا وشرعًا وفطرةً أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلًا وشرعًا و فطرةً أن يكون لغيره.
يتبــــــع >>>
( 8 )
الفصل الرابع
في بيان منهج القرآن في إثبات وجود الخالق ووحدانيته
منهجُ القرآن في إثبات وجود الخالق ووحدانيته؛ هو المنهج الذي يتمشى مع الفطر المستقيمة، والعقول السليمة، وذلك بإقامة البراهين الصحيحة، التي تقتنع بها العقول، وتسلم بها الخصوم، ومن ذلك:
1 ـ من المعلوم بالضرورة أن الحادث لا بد له من محدث:هذه قضية ضرورية معلومة بالفطرة؛ حتى للصبيان؛ فإن الصبي لو ضربه ضارب، وهو غافل لا يبصره، لقال: من ضربني ؟ فلو قيل له: لم يضربك أحد؛ لم يقبل عقله أن تكون الضربة حدثت من غير محدث؛ فإذا قيل: فلان ضربك، بكى حتى يُضرب ضاربه؛ ولهذا قال تعالى:
{ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون }. [الطور: 35. ]
وهذا تقسيم حاصر، ذكره الله بصيغة استفهام إنكاري؛ ليبين أن هذه المقدمات معلومة بالضرورة، لا يمكن جحدها، يقول: {أم خلقوا من غير شيء} أي: من غير خالق خلقهم، أم هم خلقوا أنفسهم ؟ وكلا الأمرين باطل؛ فتعين أن لهم خالقًا خلقهم، وهو الله سبحانه، ليس هناك خالق غيره، قال تعالى: {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه }. [لقمان: 11. ]
{ أوني ماذا خلقوا من الأرض }. [الأحقاف: 4. ]
{ أم جلعوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار } [الرعد: 16.] {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له }. [الحج: 73. ]
{ والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون }. [النحل: 20. ]
{ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون }. [النحل: 17. ]
ومع هذا التحدي المتكرر لم يدع أحد أنه خلق شيئًا، ولا مجرد دعوى ـ فضلًا عن إثبات ذلك ـ، فتعين أن الله سبحانه هو الخالق وحده لا شريك له.
2 ـ انتظام أمر العالم كله وإحكامه:
أدل دليل على أن مدبره إله واحد، ورب واحد لا شريك له ولا منازع.
قال تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض }. [المؤمنون: 91. ]
فالإله الحق لا بد أن يكون خالقًا فاعلًا، فلو كان معه سبحانه إله آخر، يُشاركه في مُلكه ـ تعالى الله عن ذلك ـ لكان له خلق وفعل، وحينئذٍ فلا يرضى شركة الإله الآخر معه؛ بل إن قدر على قهر شريكه وتفرد بالملك والإلهية دونه؛ فعل. وإن لم يقدر على ذلك، افنرد بنصيبه في الملك والخلق؛ كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه، فيحصل الانقسام. فلابد من أحد ثلاثة أمور:
أ ـ إما أن يقهر أحدهما الآخر وينفرد بالملك دونه.
ب ـ وإما أن ينفرد كل واحد منهما عن الآخر بملكه وخلقه؛ فيحصل الانقسام.
جـ ـ وإما أن يكونا تحت ملك واحد يتصرف فيهما كيف يشاء؛ فيكون هو الإله الحق وهم عبيده.
وهذا هو الواقع، فإنه لم يحصل في العالم انقسام ولا خلل؛ مما يدل على أن مدبره واحد، لا منازع له، وأن مالكه واحد لا شريكه له.
3 ـ تسخير المخلوقات لأداء وظائفها، والقيام بخصائصها:
فليس هناك مخلوق يستعصي ويمتنع عن أداء مهمته في هذا الكون، وهذا ما استدل به موسى ـ عليه السلام ـ حين سأله فرعون: {قال فمن ربكما يا موسى} أجاب موسى بجواب شافٍ كافٍ فقال: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 49، 50.] أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به؛ من كبر الجسم وصغره وتوسطه وجميع صفاته، ثم هدى كل مخلوق إلى ما خلقه له، وهذه الهدايةُ هي هداية الدلالة والإلهام وهي الهداية الكاملة المشاهدة في جميع المخلوقات، فكل مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المننافع، وفي دفع المضار عنه، حتى إن الله أعطى الحيوان البهيم من الإدراك؛ ما يتمكن به من فعل ما ينفعه، ودفع ما يضره، وما به يؤدي مهمته في الحياة، وهذا كقوله تعالى: {الذي أحسن كل شيء خلقه }. [السجدة: 7. ]
فالذي خلق جميع المخلوقات، وأعطاها خلقها الحسن ـ الذي لا تقترح العقول فوق حسنه ـ وهداها لمصالحها، هو الرب على الحقيقة، فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجودًا، وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب، فالله أعطى الخلق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا، ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به، ولا شك أنه أعطى كل صنف شكله وصورته المناسبة له، وأعطى كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه، في المناكحة والألفة والاجتماع، وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به، وفي هذا براهين قاطعة على أنه جل وعلا رب كل شيء، وهو المستحق للعبادة دون سواه…
وفي كل شيء له آية …….. تدل على أنه الواحد
ومما لا شك فيه أن المقصود من إثبات ربوبيته ـ سبحانه ـ لخلقه وانفراده لذلك: هو الاستدلال به على وجوب عبادته وحده لا شريك له؛ الذي هو توحيد الألوهية، فلو أن الإنسان أقر بتوحيد الربوبية ولم يقر بتوحيد الألوهية أو لم يقم به على الوجه الصحيح؛ لم يكن مسلمًا، ولا موحدًا؛ بل يكون كافرًا جاحدًا، وهذا ما سنتحدث عنه في الفصل التالي ـ إن شاء الله تعالى ـ.
يـتـبـــــع >>>